الاستثمار في الجهل والتجهيل

كلمة الاستثمار من الكلمات الرنانة التي يجلب صداها الجميع كما أنها ذات أبعاد ضوئية تجذب نحوها الفراشات المسالمة التي تنساق في بعض الأحيان إلى حتفها بحثا عن الضوء.
وهذه الكلمة - أي الاستثمار - لها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية وأحيانا الأخلاقية والإيديولوجية تبعا لطبيعة وتكوين مستخدمها والمجتمع الذي يعيش فيه.
وخلال السنوات القليلة الماضية ارتبط الاستثمار في عقول العامة لدينا بالاستثمار في العقار والاستثمار في الأسهم، حيث دخل مجالها كثير من الناس، منهم من أعطاه الله الغنى وهم أقلية ومنهم من أفلس وانهار وهم الأكثرية. ومن المؤكد أن هذه الصورة الدراماتيكية للواقع السعودي الاستثماري من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تفصيل أو دخول في الجزيئات.
ومع وضوح مفهوم وهيمنة الاستثمار في العقار والأسهم على عقول الناس واعتقادهم أنهما الوحيدان المتاحان إلا أن هنالك استثمارا آخر له نصيب وسطوة ويدر أموالا كثيرة فطن له البعض وجعلوه هدفا وغاية لنشاطهم. هذا الاستثمار لم يلق العناية بتركيز الأضواء عليه ووضعه تحت دائرة الضوء ولم يقنن وتوضع له الضوابط الأخلاقية والمالية. هذا النوع من الاستثمار يمكن تسميته الاستثمار في الجهل والتجهيل، حيث نمت وتطورت هذه السوق الاستثماري وأصبح لها مكوناتها وسلعها التي تباع وتشترى ولها منتجوه ومستهلكوه. إنها سوق عامرة لها خبراؤها وموظفوها ومسوقوها وموزعوها. كل مقومات سوق البضاعة متوافرة في هذه السوق. وكل أركان العملية الاستثمارية القائمة على تحقيق الأرباح موجودة فيه.
تتنوع وتنتشر بضائع سوق الجهل والتجهيل في كل مكان من مدن وقرى. ويتعامل معها كثير من فئات المجتمع بصرف النظر عن تعليمهم ووعيهم. ولعل إيراد مثال توضيحي لربحية هذه السوق تضع القارئ العزيز في الصورة. توجد - على سبيل المثال - منتجات متنوعة في السوق معروضة ومعروفة للجميع وتباع بسعر ريالين للوحدة الواحدة، فإذا تم إضافة مكونات الجهل والتجهيل عليها أصبح سعرها خمسين ريالا. أي أن القيمة المضافة لعناصر إنتاج الجهل والتجهيل (والتي تكلفتها من الناحية الإنتاجية تساوي تقريبا صفر) أدت إلى زيادة قيمة السلعة الأصلية بنحو 25 مرة. وبالتالي فإن معدلات الربح في هذه السوق يمكن تصنيفها بأنها من أعلى معدلات الأرباح في الأسواق والسلع الاستثمارية المحلية. حتى أن سوق العقار وهي المشهود لها في سوق الاستثمار السعودي لم تعد تستطيع أن تقدم مثل هذه المعدلات العالية في عائد الاستثمار.
وإذا كان المثال السابق هو نموذج لعدد كبير من سلع مشابهة له وقد تحقق عوائد وأرباحا أكبر إلا أن وجودها وكينونتها وإمكانية لمسها واستخدامها قد توجد نوعا من التبرير حتى ولو كان تبريرا غير عقلاني أو منطقي. إلا أن الغريب في الأمر والذي يتجاوز قدرة أي إنسان على فهمه أن سوق ''الاستثمار في الجهل و التجهيل'' تقدم أحيانا كثيرة سلعا غير محسوسة أو موجودة، بل هي سلع من الهواء ومثل الهواء (وليس مثل ضرورته ونقائه) لا يمكن لمسها أو امتلاكها أو تخزينها. إنها سلع تسمع بها وتسمعها ولكنك لا تراها. هذا النوع من السلع تختلف تكلفتها على المستهلكين بدءا من مئات الريالات وصولا إلى الآلاف أو مئات الألوف من الريالات تبعا لنوعية مسوق السلعة وشطارته والسوق الاستهلاكية التي تستهدفه وتروج لسلعته فيها. ومن ميزات هذه السلع الهوائية أنها لا تحتاج إلى رأس مال لإنتاجها أو مراكز أبحاث أو معامل لإخراجها للسوق. إنها سلع فكرتها بسيطة وعوائدها هائلة. إنها سلع نجحت عن طريق بناء سوق للجهل والتجهيل واستخراج رخصة وجوده والسماح لفئات محددة من العمل فيه.
لقد نجحت سوق الجهل والتجهيل واستطاعت أن تنشط في مجالاتها الاستثمارية، وهي اليوم في طريقها إلى إزاحة الأسواق المنافسة له والسيطرة على المستهلكين وإنشاء سوق احتكارية تشبه الغول في التهامه ضحاياه. ولعل أفضل وصف لحال وواقع هذه السوق هو أنها استطاعت أن تغير من المثل المشهور الذي يقول ''إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب'' إلى مقولة جديدة وهي أن الكلام الفاضي يدر ذهبا وأن الجهل والتجهيل يوفر ألماسا وبلاتينا ودولارات وريالات ودنانير ودراهم.

ماذا لو؟
إن فجيعة وجود سوق الاستثمار في الجهل و التجهيل في هذا الزمان الذي تنتشر فيه الجامعات ومراكز الأبحاث لا يحتاج إلى ماذا لو. ولكن يحتاج إلى دعاء إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يزيح هذه الغمة وأن يعيد العقول إلى طبيعتها التي خلقها الله لها، حيث تفكر وتحلل وتقدم العلم على الجهل في شؤون حياتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي