مرتفعات الجولان.. هل دخلت نفق الضياع إلى الأبد؟
وسط الانشغال المحموم بأخبار الثورات والهبات والحروب الأهلية، ووسط انقسام الرأي حول ما يدور في الكثير من الدول العربية تتسع الهوة بين العرب والكثير من قضاياهم الحيوية. وبمعيار المكسب والخسارة والنجاح والفشل الاستراتيجي تظل مرتفعات الجولان واحدة من أهم الخسائر التي يسدل عليها ستار قوامه من الذي يحكم زيد أم عبيد؟ ولذلك وجب علينا إنعاش ذاكرة قرائنا الأحباء بالتوقف أمام هذه القضية.
وهضبة الجولان التي ربما لا يعرف جغرافيتها إلا القليل خارج سورية هي جزء من الأراضي السورية التي فقدتها سورية بعد هزيمة 1967 المنكرة والتي حاولت أنظمة الهزيمة التخفيف من وقعها بإطلاق مسميات مخففة على غرار نكسة أو أزمة. ولكن الواقع يقول إن الفقد هائل والخسارة جسمية.
هضبة الجولان هي مرتفعات تميل إلى الانحدار ويبلغ ارتفاعها 300 متر غرباً تتدرج نحو الشرق ارتفاعاً لتبلغ ألف متر في أقصى شرقها، وتغطي المرتفعات مساحة تصل إلى 1800 كيلو متر مربع. ويحدها من الغرب نهر الأردن وبحر الجليل ومن الجنوب نهر اليرموك أما التلال الممتدة على امتداد نهر الرقاد فتحدها من الشرق. ويمثل جبل الشيخ الذي يبلغ ارتفاعه 2814 متراً الحد الشمالي للمرتفعات، وهذا الجبل له قيمة استراتيجية وعسكرية هائلة فهو يطل من أعلى على المنطقة بأسرها حتى دمشق والتي لا تبعد عن الجولان بأكثر من 60 كيلومتر شرقاً كما يطل الجبل على خليج حيفا والبحر الأبيض المتوسط غرباً، وتهيمن مرتفعات الجولان على وادي نهر الأردن ومنطقة الجليل التي تحتلها إسرائيل الآن (تقع غربها) والمنطقة الممتدة إلى العاصمة السورية دمشق شرقها.
وقلب المشكلة يتمثل في إصرار إسرائيل التي ابتلعت هذه الجائزة الهائلة في غيبة من الوعي والقوة العربية على أن الانسحاب منها يعني خللاً استراتيجياً جسيماً. والسبب أن السيطرة على المرتفعات تعطي إسرائيل عدة مزايا.
وعندما يفتح ملف الانسحاب من الجولان يبادر الإسرائيليون بشن حملة محورها أنه لولا وجود الجولان في أيديهم، لكان السوريون قد وصلوا إلى المدن الإسرائيلية في حرب 1973، ولما تمكن الجيش الصهيوني من رد الهجوم المفاجئ في السادس من أكتوبر، ولما تمكنت إسرائيل من تأمين حدودها.
والحقيقة أنه من سنة 1974 وحتى الآن يلاحظ أن المنطقة هادئة تماماً ولا تعاني إسرائيل أية مضايقات رغم الإجراءات الاستفزازية المتعاقبة التي اتخذتها إسرائيل هناك من قرارات الضم إلى محاولات التهويد إلى التكثيف في بناء المستوطنات إلى ربطها بالاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي.
ويمكن القول إن المنطقة في حالة استرخاء عسكري لا يستقيم مع طبيعتها إذا ما قورنت بالمناطق الساخنة والمكتظة بالسكان التي تعاني حصارات عسكرية سهلة مثل غزة والضفة الغربية.
ومن الأمور المحيرة أن إسرائيل عرضت الجولان على سورية مقابل اتفاقية سلام دائم، ولكن سورية رفضت ذلك، عندئذ قامت إسرائيل بسلسلة من الإجراءات الضاغطة وعلى رأسها الإعلان عن بدء الوجود المدني، وفي ديسمبر 1981 أعلنت مد القانون الإسرائيلي ليشمل المنطقة وهو ما يعني ضمها الفعلي إلى إسرائيل.
ومنذ سنة 1992 عندما أصبح إسحاق رابين رئيسا للوزراء وبعده بعدة وزارات، أقدمت إسرائيل على تقديم عروض بالتنازل عن الجولان مقابل اتفاقية سلام ضمنتها العديد من الشروط الكابحة وطالبة التنازل عن العديد من الحقوق السورية، وكان مآلها الرفض. وهنا ظهرت قضية ''الأرض مقابل السلام''، ويقول السوريون إن كافة العروض الإسرائيلية بالانسحاب كانت مكبلة ومشروطة بطلبات غير مقبولة على غرار ترتيبات أمنية تجعل سورية تتنازل عن بضع مناطق حيوية ونزع سلاح المنطقة بل وبعض المناطق المجاورة، وإن حرص اليهود كعادتهم في الترويج لعروضهم وإبرازها في صورة تنازلات سخية من دولة محبة للسلام. ولكن الخفايا تحت المائدة كانت دائماً مشوبة برغبة في عدم التنازل عن الجائزة دون مكاسب. ويجب أن نتذكر أن واشنطن لم تترك فرصة للطرفين بل كانت حاضرة مرة كوسيط وثانية كرقيب وثالثة كراعية والهدف هو تأمين الخطوط الإسرائيلية المطلوبة أمريكياً.
كان من الطبيعي ألا تلبي عروض التفاهم طموحات المتفاوضين فلم تنجح المحاولات ولذلك بقيت الجولان في الثلاجة ''البراد'' السياسية.
تبع ذلك مرحلة إطلاق مسميات ''المسار السوري'' و''المسار الفلسطيني''، ومن هنا أصبحت إسرائيل مطالبة بتحقيق تقدم تفاوضي مع المسارين.
ونظراً لأن المسار الفلسطيني بدأ ينشط فإن إسرائيل بدأت تفكر في المسار السوري الذي يعوقه ما يجري حالياً في سورية من اضطرابات لا تتيح المجال أمام الحكومة السورية بالدخول في جولة مفاوضات. ولكن إذا ما هدأت الأمور فإن إسرائيل تتحرق شوقاً للتفاوض بشأن الجولان لأنها تصور ما يجري في سورية حالياً بأنه حرب بين العلويين والإسلاميين، رغم محاولة أمريكا راعية الليبرالية الإعلامية وأن الليبراليين في سورية لهم أهمية كبرى. ولكن إسرائيل تقول إن بلاد الشام تحكمها سياسة العشائر والدين ومن هنا فلا تفاوض قبل تبدد دخان التوتر المحلي.
وعلى هامش الحديث عن اتفاقية سلام قادمة مع دمشق التي تتمنى إسرائيل وصولها إلى أقصى مراحل الضعف سواء بقي الرئيس بشار الأسد أم اختفى، ففي حالة بقائه ستكون قدراته على التفاوض قد ضعفت وفي حالة اختفائه – وما لم يسيطر الإسلاميون – ستكون قدرة القادمين الجدد محدودة. ومع ذلك يعج الإعلام الإسرائيلي بالحديث عن عدم جدوى فكر الأرض – مقابل – السلام لأن الأمور تغيرت خاصة في تكنولوجيا الأسلحة، وإذا كانت الجولان قديماً أرضاً رائعة.
من الناحية العسكرية لمن يهيمن عليها، فإن الصواريخ الجديدة والطائرات بلا طيار والتقدم الهائل في الاتصالات ألغى كل هذه المزايا.
فريق من الاستراتيجيين والإعلاميين الإسرائيليين يعلن أن التنازل عن الجولان خسارة كبيرة، وينطوي على خسائر استراتيجية وفريق آخر يقول إن إسرائيل لا تتحمل ضغوط الحرب على كافة حدودها وهو احتمال قائم بقوة مع التغيرات التي تمسك بتلابيب المنطقة. ويصر هؤلاء الإسرائيليون على أن الوضع القائم مثالي ويصعب تعويضه ومهما كانت مزايا اتفاقية السلام فهي لن ترقى إلى الوضع الحالي الذي يعطي إسرائيل تفوقاً واضحاً.
ويقول بعض الإسرائيليين إن الربيع العربي وبصفة خاصة ما يحدث في سورية يؤكد أهمية أن يكون لإسرائيل ''حدود يمكن الدفاع عنها'' Defensible Borders وهو المصطلح الشائع لدى الحكومات الإسرائيلية كلما أرادت أن تملي شروطاً أو تبقي واقعاً في مصلحتها. ويقول هؤلاء إن العداء الذي يكنه كل طرف للآخر في الحرب القائمة الآن في سورية لا يعني أن أي طرف يكره إسرائيل أقل من الآخر. ومن ثم فإن الأمل في كبح جماح أي نظام سوري يكمن في حجم الضغط الأمريكي عليه كما حدث في الحالة المصرية، أما إذا فاز الإسلاميون بالجولة فإن الاعتماد على إيران سيزيد ومن ثم فإن التحديات ضد إسرائيل ستقل.
وفي كافة الأحوال فإن الجولان عندما تبرز إلى السطح يبرز معها:
أولاً: المزايا الاستراتيجية لأي طرف يسيطر عليها.
ثانياً: المقارنة بين معاهدة سلام والحصول على الجولان .. أيها أفضل؟
ثالثاً: مدى إقناع الإسرائيليين بضرورة الحفاظ على الجولان على حساب أية مزايا أخرى.
رابعاً: التحولات الهائلة التي حدثت في الجولان من جراء قرارات التهويد الإسرائيلية.
خامساً: الشكل المتوقع للدول العربية في إطار محاولة صنع شرق أوسط جديد بعد محاولات الفوضى الخلاقة.