الشرعية والكفاءة الاقتصادية شرطان لفاعلية المنتجات الإسلامية
أكد محمد كريم قروف الباحث الجزائري في التمويل الإسلامي أن الهندسة المالية الإسلامية تهدف إلى إيجاد منتجات وأدوات مالية تجمع بين المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية، حيث تقوم الهندسة المالية على التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة، وصياغة حلول إبداعية لمشكلات التمويل، وذلك في إطار الشريعة الإسلامية، مضيفاً أن المصرفية الإسلامية بحاجة إلى الهندسة المالية الإسلامية في سعيها الحثيث للتخلص من الأوراق المالية الربوية واستبدالها بأخرى توافق الشرع الإسلامي من حيث المنشأ والاستمرارية والانتهاء، وكذلك استلهام المستجدات الأخرى التي قد يفرزها العصر.
وقال قروف: إنه على الرغم من أهمية المنتجات المالية الإسلامية ووظيفتها الأساسية في توجيه دفة الاقتصاد إلى الوجهة الإسلامية، إلا أن مقدار الاهتمام بدراستها والعناية بتطويرها وتحقيق أهدافها لا يتناسب مطلقًا مع تلك الأهمية، مشيرا إلى أن ثمة غيابا واضحا لتطوير المنتجات في الخطط الاستراتيجية والرؤية التي تحكم مسيرة المؤسسات الإسلامية.. فإلى تفاصيل الحوار:
هل يختلف مفهوم الهندسة المالية بين المصرفية الإسلامية والمصرفية التقليدية؟
الهندسة المالية Financial Engineering مفهوم قديم قدم التعاملات المالية، لكنه يبدو حديثاً نسبياً من حيث المصطلح والتخصص. ومعظم تعاريف الهندسة المالية مستخلصة من وجهات نظر الباحثين الذين يطورون النماذج والنظريات، أو مصممي المنتجات المالية في المؤسسات المالية، لهذا نجد اختلاف تعريفات هذا المصطلح بحسب الزاوية التي يمكن النظر منها إليه. حيث يعرف بعض الباحثين الهندسة المالية بأنها: ''التصميم، والتنفيذ، لأدوات وآليات مالية مبتكرة، والصياغة لحلول إبداعية لمشكلات التمويل''. وانطلاقًا من هذا التعريف التقليدي فإنه يمكن تعريف الهندسة المالية الإسلامية بأنها ''مجموعة الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة، إضافة إلى صياغة حلول إبداعية لمشكلات التمويل، وكل ذلك في إطار توجيهات الشرع الإسلامي''.
#2#
ويلاحظ على هذا التعريف أنه مطابق لتعريف الهندسة المالية بصفة عامة، غير أنه أضيف عنصر جديد هو أنه يأخذ بعين الاعتبار ضرورة أن يكون موافقًا للشريعة الإسلامية. وهذا التعريف يشير إلى أن الهندسة المالية الإسلامية تتضمن ابتكار أدوات مالية وآليات تمويلية جديدة، وابتكار حلول جديدة للإدارة التمويلية، مثل إدارة السيولة أو الديون، أو إعداد صيغ تمويلية لمشاريع معينة تلائم الظروف المحيطة بالمشروع، إضافة إلى أن تكون الابتكارات المشار إليها سابقًا، سواء في الأدوات أو العمليات التمويلية موافقة للشرع مع الابتعاد بأكبر قدر ممكن عن الاختلافات الفقهية، ما سيميزها بالمصداقية الشرعية. والهندسة المالية بذلك تعتبر منهجاً لنظم التمويل المعاصرة يهدف إلى تحقيق الكفاءة في المنتجات المالية المعاصرة وتطويرها في ظل الاحتياجات المالية التي تتصف بأنها متجددة ومتنوعة. إذن فالاختلاف يكمن في أن الصناعة المالية وفقاً للصيرفة الإسلامية تهدف إلى إيجاد منتجات وأدوات مالية تجمع بين المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية. فالمصداقية الشرعية هي الأساس في كونها إسلامية، والكفاءة الاقتصادية هي الأساس في قدرتها على تلبية احتياجات الاقتصادية ومنافسة الأدوات التقليدية.
هل تعتقد أن الهندسة المالية قادرة على الإيفاء بمتطلبات التمويل الإسلامي، خاصة أن الأخير بحاجة إلى منتجات جديدة ومبتكرة في إطار الضوابط الشرعية؟
إن ظهور الهندسة المالية أعطى وسيعطي مجالات ابتكار متعددة ومتطورة في المستقبل المنظور والبعيد. وهذا الاتجاه أحوج من يحتاج له علماء المالية أو التمويل الإسلامي في سعيهم الحثيث للتخلص من الأوراق المالية الربوية واستبدالها بأخرى توافق الشرع الإسلامي من حيث المنشأ والاستمرارية والانتهاء وكذلك استلهام المستجدات الأخرى التي قد يفرزها العصر. وكما أصبح معروفا ومشاعا بين الناس فإن هناك صيغاً إسلامية كثيرة متاحة للتمويل، خاصة في المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم نسبياً. أما دور الهندسة المالية كما أشرنا إليها فهو ابتكار وسائل تمويل جديدة في مستوى التمويل طويل الأجل خاصة بالنسبة للحكومات الإسلامية أو حكومات الدول التي ربما ترى أن تمويل مشاريعها يتحتم أن يكون من خلال الإطار الإسلامي. فمثلاً يمكن لصيغ التمويل الإسلامية مثلاً المشاركة والمضاربة والمرابحة… إلخ، من أن تتمكن لسد الحاجة للتمويل قصير المدى إذا ما وجهت الوجهة الصحيحة ووضعت لها الضوابط الشرعية ونظم المتابعة والرقابة.
في ظل الضغوط التنافسية الحادة وترابط أسواق التمويل الدولية والانفتاح الاقتصادي، هل تعتقد أن واقع صناعة المنتجات المالية الإسلامية قادر على تطوير منتجات جديدة تمتاز بالمرونة وتنافس البنوك التقليدية؟
على الرغم من أهمية المنتجات المالية الإسلامية ووظيفتها الأساسية في توجيه دفة الاقتصاد إلى الوجهة الإسلامية، إلا أن مقدار الاهتمام بدراستها والعناية بتطويرها وتحقيق أهدافها لا يتناسب مطلقًا مع تلك الأهمية. من حيث الأرقام فإن المقدار المخصص للبحث والتطوير للمنتجات الإسلامية لدى المؤسسات المالية يكاد يكون معدوما مقارنة بربحية هذه المؤسسات وأدائها المالي، ومن حيث التنظيم الإداري فإن قلة قليلة من المؤسسات الإسلامية تنشئ إدارات متفرغة لتطوير المنتجات الإسلامية، وتصبح هذه المهمة في الغالب موزعة بين الهيئات الشرعية وبين إدارة التسويق وبين الإدارات المختلفة للمؤسسة، وهناك غياب واضح لتطوير المنتجات في الخطط الاستراتيجية والرؤية التي تحكم مسيرة المؤسسات الإسلامية. فمن حيث الواقع فإن المؤسسات الإسلامية تقدم كثيرا من المنتجات باستمرار. لكن السؤال الذي يطرح هنا هو كيف يمكن التوفيق بين ذلك وبين غياب الدور الاستراتيجي لتطوير هذه المنتجات ؟، والجواب يتلخص في المنهجية المتبعة عملياً لتطوير المنتجات.
في الوقت الذي يتطلع فيه كثير من الباحثين لنظام مالي إسلامي يقوم على المشاركة، نجد أن هذا لا يتحقق على أرض الواقع لأن هذا الإطار النظري بعيد عن إيجاد مؤسسات تتبنى هذا الإطار وتطبقه، ويلاحظ أيضا تفضيل البنوك الإسلامية لصيغ محددة تتركز على الإقراض بعيدا عن المشاركة، ما يجعلها تقترب عمليا من البنوك التقليدية. ما الأسباب وراء ذلك؟
لقد استعملت هذه الأدوات والأوراق المالية في كثير من البلدان الإسلامية فمثلاً استعملت الحكومة الماليزية أذونات خزينية مبنية على الضرائب المشاركة Treasury Tax - Anticipated لتمويل مشاريع طويلة الأجل. وكذلك استعملت وزارة الأوقاف الأردنية سندات الدخل Income Bonds لتمويل المشاريع طويلة الأجل، أما قطاع المؤسسات في باكستان فقد استعمل شهادات
مشاركة Participaing –Term Certificate، تؤهل حامليها للمشاركة في عوائد المشاريع، ولم يقتصر استعمال هذه الأدوات على الأقطار الإسلامية، فقد استعملت بعض هذه الأدوات من قبل مشاريع بناء السكك الحديدية حيث استعملت سندات الدخل، أما حديثاً فقد استحدث مصرف سيتي Citi Bank ورقة مالية هي شهادة مؤشر الأسهمStock index Certificate وهي تمثل أداة من أدوات تقاسم الأرباح تتحرك تبعاً لتحرك أحد مؤشرات سوق الأسهم. وأيضاً استحدثت في النمسا أوراق أطلق عليها اسم أذونات إنماء مؤشر الأسهم النمساوي Index Growth Notes Austrian Stock. وتختصر SINGS، وهي مرتبطة بمؤشر الأسهم النمساوي هبوطاً وعلواً. ويتضح مما تقدم أن كل هذه الأدوات الجديدة ما هي إلا ابتكارات ووسائل جديدة تصب في خانة ما يعرف بالهندسة المالية، وعلاوة على ذلك، وهو الأهم فإنها تشير إلى أن مبادئ التمويل الإسلامية المبنية على المشاركة في الأرباح والمخاطر قابلة للتطبيق باستنباط وسائل علمية وعملية تجعل من الممكن استعمال أدوات الهندسة المالية قابلة للتطبيق في البلدان الإسلامية وفقاً لشرائعها السماوية، بالتالي لم تكن حكرا على الدول الغربية.
إن هذا القول لا يلقى جزافاً بل إن كثيراً من الدراسات التجريبية المنشورة قد برهنت على أن هذه الأدوات والأوراق المالية المبنية على هذه المبادئ المتماشية مع روح التمويل الإسلامي لا تقل كفاءة ولا فاعلية عن رديفتها الربوية، بل إنها قد فاقتها في كثير من الأحيان. وقد أصبح معروفاً لدى كثير من كتاب الاقتصاد الغربي ما يعرف Equity Premium Puzzle وهي ظاهرة أن شهادات الملكية أو القائمة على المشاركة في العوائد لها علاوة غير مبررة أو غير ظاهرة مقارنة بالأوراق الربوية.
تطرح الهندسة المالية كمفهوم لتطوير العمل المصرفي الإسلامي والانتقال به إلى الحوكمة والمعيرة، غير أن العمل بهذا المفهوم ما زال يواجه عديدا من التحديات، كيف ترى الواقع التطبيقي لهذا المفهوم؟
في هذه الفترة بالذات التي شهد فيها العالم تغيرات جذرية هائلة تمثلت في تغير أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية إلى النمط الاقتصادي الحر، إلى جانب ترابط أسواق التمويل الدولية بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فإن ذلك يفرض ضغوطا تنافسية حادة تكون غير متكافئة بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، وبالذات في أسواق التمويل والخدمات المصرفية والمالية. ويستدعي ذلك بالضرورة تطوير منتجات مالية إسلامية مستحدثة تضمن للمؤسسات قدراً من المرونة ونصيباً سوقياً وافراً يساعدها على الاستمرار بفاعلية، ومن هنا تبرز أهمية الهندسة المالية كأداة مناسبة لإيجاد حلول مبتكرة وأدوات مالية جديدة تجمع بين موجهات الشرع الحنيف واعتبارات الكفاءة الاقتصادية، وتقوم بالموازنة بين عدة أهداف ومن ثم تصميم أدوات مبتكرة تستوعب كل هذه الأهداف معاً، وهذه المهمة ليست باليسيرة حيث تحتاج إلى تضافر جهود على شكل تنظيمي بين الشرعيين والاقتصاديين والمصرفيين والمحاسبين للخروج بمبتكرات فعالة. إن هذا التصور لأهمية الهندسة المالية لهو أحوج للبنوك الإسلامية من البنوك الربوية، لأن البنوك الإسلامية تتعامل بعديد من العقود الحساسة في إجراءاتها، وتتعامل أيضاً في ظل نظام مصرفي غير ملائم لطبيعتها وهو ما يجعلها أشد حاجة للهندسة المالية، ويزيد في أهمية الهندسة المالية بالنسبة للبنوك الإسلامية في أنها تتعامل ضمن الضوابط والقيود الشرعية التي تنظم آلية أعمالها التمويلية والاستثمارية، ولهذا يتحتم على المهندس المالي في البنوك الإسلامية مراعاة هذه الضوابط وعدم اللجوء إلى الحيل، لأن الأحكام والضوابط الشرعية جاءت لتحقق مصلحة للفرد والمجتمع معاً.
ما العوامل التي تدفع باتجاه تعزيز مؤسسة العمل المصرفي الإسلامي وتعزيز دورة الهندسة المالية، وإلى أين وصلت من وجهة نظركم؟
الصناعة المالية الإسلامية تهدف إلى إيجاد منتجات وأدوات مالية تجمع بين المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية. فالمصداقية الشرعية هي الأساس في كونها إسلامية، والكفاءة الاقتصادية هي الأساس في قدرتها على تلبية احتياجات الاقتصادية ومنافسة الأدوات التقليدية.
وتعني المصداقية الشرعية أن تكون المنتجات الإسلامية موافقة للشرع بأكبر قدر ممكن، حيث تتميز الهندسة المالية الإسلامية، إضافة إلى المصداقية الشرعية بخاصية أخرى مناظرة لتلك التي تتميز بها الهندسة المالية التقليدية وهي الكفاءة الاقتصادية، ويمكن لمنتجات الهندسة المالية زيادة الكفاءة الاقتصادية عن طريق توسيع الفرص الاستثمارية في مشاركة المخاطر وتخفيض تكاليف المعاملات وتخفيض تكاليف الحصول على معلومات وعمولات الوساطة والسمسرة.
كيف يمكن إلزام المؤسسات المالية الإسلامية بتطبيقات الهندسة المالية، وجعلها واقعا ملموسا؟
في الوقت الراهن يبقى التحدي الأكبر أمام المؤسسات المالية الإسلامية، إضافة إلى المحافظة على المكاسب المحققة خلال مسيرتها هو المسؤولية عن بقاء النظام المالي الإسلامي ككل من خلال استيعاب المنتجات الحديثة في الصناعة المالية ولا يتحقق لها ذلك إلا من خلال الأخذ بالهندسة المالية الإسلامية.
فالمؤسسات المالية الإسلامية تحتاج دوماً إلى الاحتفاظ بتشكيلة متنوعة من الأدوات والمنتجات المالية تمكنها من إدارة سيولتها بصورة مربحة، إضافة إلى توفيرها المرونة المناسبة للاستجابة لمتغيرات البيئة الاقتصادية. والمنتجات الإسلامية إذا أرادت أن تثبت وجودها ضمن الأسواق المالية العالمية اليوم ينبغي أن تستوفي صفتين أساسيتين وهما السلامة الشرعية، بحيث تكون مقبولة لدى جمهور المسلمين الذين يرغبون في التعامل الإسلامي، والثانية هي الكفاءة الاقتصادية، بحيث تكون سهلة التنفيذ بعيدة عن التعقيد ومحققة لأغراض المتعاملين.