«الريمكس السياسي» .. فضائيات تتنافس في صنع حوارات افتراضية من وحي الحدث
يحدث أحيانا أن تكون جالسا ''في حالك'' فتتردد في بالك عبارة مجتزأة من سياق ما، وستجد أنك تقولها كثيرا، رغم أنك غير معني بما فيها من معنى، حالة كهذه تحدث حين يبدأ عقلك الباطن في استعادة عبارات تم تكرارها عليه بالدرجة نفسها في مستويات متفاوتة من وعيه وانتباهه، ولكنها جميعها وجدت مكانا في ذاكرته، ولتجد تطبيقا مثاليا لفكرة كهذه فليس عليك سوى أن تبدأ في استحضار عدد من الجمل التي تزامنت مع الثورات العربية، وقامت بعض القنوات الإخبارية بالتنافس في إعادة إنتاجها ودبلجتها على شكل فواصل ربط بين برامجها ونشراتها أو كدعايات لمتابعة القناة نفسها، لكنها وبعد شهور من العرض اليومي المتكرر باتت لزمات تفرض ذاتها على ذهن ولسان المشاهد قبل أن تتحول في مرحلة لاحقة إلى قوالب لفظية جاهزة لإعادة الاستخدام، وإذا كان ''الريمكس'' هو إعادة إنتاج المواد المرئية أو الصوتية ضمن مؤثرات جديدة، قد نجح هذا الأسلوب في إيجاد مواد خاصة تخلد محتواها ويجري تداولها والتفاعل معها اجتماعيا وإعلاميا.
سنتجاوز ''هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية''؛ لأنها باتت أشهر من التحدث عنها، لنمر سريعا على مقاطع أخرى تتضمن تصريحات زعماء يتم عرضها والتقاطع معها بمشاهد احتجاجات مع ملاحظة وجود مسار يتناسب موضوعيا بين الخطاب والصورة، في أحد تلك التقارير التي يمكن وصفها بـ''الريمكس الإخباري''.. يظهر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وهو يقول ''تشكل لجنة من مجلسي النواب والشورى''، وبينما يستمر في عرض إجراءات حكومته لتدارك الموقف يأخذ في توجيه نداءات متكررة ''يا أيها الشباب''،''يا شباب الثورة''، ''أيها الشباب المؤمن''، وفي كل مرة يقاطعه مشهد الجماهير وهي تصرخ ''ارحل'' مرة وأخرى، لتقول في الأخيرة ''امشي''.. الطريقة التي تم بها هندسة هذا الحوار بين الطرفين كانت توحي بأن الرجل لم يكن يستوعب المخاطبة بالفصحى فتم مخاطبته بالعامية، كما يبدو أن القناة استخدمت تلعثمه في بداية المقطع ووقوعه في أخطاء نحوية من قبيل ''لتنفيذ مطالب المعتصمون'' للتعبير ضمنيا عن حالة ارتباك عام يعيشها الرئيس الذي ينتهي به المطاف أن يقول وحيدا ''أنا على استعداد.. وأنا على استعداد''.. والرسالة غير المباشرة هنا تقول.. ''الوقت أصبح متأخرا على هذا الاستعداد لدرجة أنك لن تجد من يستمع إليه''. في مقطع آخر، تستعرض تلك الفضائية الإخبارية عددا من تصريحات المعارضة اليمنية والعسكريين المنضمين للثورة، بينما تختتم ذلك بتصريح لصالح يصفها جميعا بالأصوات النشاز، ثم يكرر في نهاية المقطع ''فاتكم القطار.. فاتكم القطار!''. طرح جميع المقاطع لا يبدو ممكنا، لكن أحدها سيبقى في الذاكرة وهو يختزل مشاهد ثلاث زعماء بطريقة ذكية قامت بتصنيف خطاباتهم المختلفة إلى ثلاث أفكار متطابقة تماما، يمكن عنونة الأولى بـ''ماذا قدمت لكم'' فبعد أن يقول الرئيس التونسي عن خدمته لبلاده لأكثر من 50 عاما، يليه الرئيس المصري بقوله ''أفنيت عمرا من أجل مصر'' فيما يظهر الزعيم الليبي وهو يقول ''أنا قائد، ثائر، مجاهد، من الخيمة.. من البادية''.. لينتقل المقطع نحو الفكرة الثانية وهي ''عدم التمسك بالكرسي'' فيظهر بن علي مرددا بحسم ''لا رئاسة مدى الحياة'' ويقول مبارك ''لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية'' فيما يقول القذافي ''أنا لو أني رئيس.. لو عندي منصب.. كنت طوحت الاستقالة على وجوهكم!''.. ليختتم المقطع بفكرته الأخيرة وهي ''تمجيد الرئيس لشعبه'' فيقول الأول ''عاشت تونس'' والثاني ''حفظ الله مصر'' والثالث ''الشعب الليبي.. في القمة''.
من ناحية أخرى، فإن مرورا سريعا على ''ريمكسات'' الثورة المصرية، سيجعلك تتذكر الشابة التي تردد بسعادة بعد سقوط النظام ''مافيش خوف تاني.. مافيش ظلم تاني''.. غير أن القناة توقفت عن بث هذه المقطع ربما لأنها لم تعد متأكدة من واقعية تلك العبارة القطعية في ضوء عودة التوتر إلى الشارع، غير أن ذلك المراسل ما زال يظهر يوميا بعد مجموعة من المشاهد المحتدمة ليؤكد على تأثير صوت الجماهير، فيقول ''من شعب مصر إلى الرئيس القادم.. امشي بما يرضي الله لأن 80 مليون مصري خدوا نمر بعض.. وهي رنة''. أما الثورة الليبية، فربما تعد الأكثر توفيرا للمواد الإعلامية ''الخام'' التي يمكن إعادة استخدامها ''مونتاجيا''. لا أتحدث فقط عن الشخص الذي يحمل طفله ويتحدث عنه بتهكم مصحوب بمحاولة البكاء ''هذا هو زعيم الإرهاب'' فيما يظهر ليبي وهو يصرخ ''وين العالم وين؟''.. غير أن هذا الاتجاه الإنساني ''الاستعطافي'' تحول بعد سقوط طرابلس إلى نقل نبرة الانتصار، حيث تظهر في أحد مقاطعها إحدى الليبيات وهي تقول بحماس ''مبسوطين.. مبسوطين الحمد لله''!
بينما أحاول إكمال هذا التقرير أتذكر الثائر الممسك بسلاحه وهو يوجه كلامه للقذافي ''جايينك، جايينك في عقر دارك إن شاء الله''.. وتتردد في ذهني عبارة ''خرجوا من الشارع.. خرجوا من القاع'' لكني سأؤجل محاولة تذكر سياقها لأقول إن الجانب الأهم في ريمكسات الثورة الليبية كان مرتبطا دوما بالدرامية العالية والحس المسرحي في تصريحات القذافي ولا سيما خطابه الشهير بـ''زنقة زنقة''.. إحدى القنوات قامت بتركيب ذلك الخطاب ودمجه مع الخطاب الهادئ الذي ظهر به نجله سيف الإسلام، فبدا وأن الجمل تكمل بعضها لأداء مفهوم واحد، وكأن في ذلك كناية عن أن الانفعالية والهدوء لا تختلفان في تبني الرؤية نفسها بين الأب وابنه، في مقطع آخر.. يحاول القذافي لأكثر من أربع مرات أن يبدأ في الحديث إلى مناصريه غير أنه يواجه بمقاطعة هتافاتهم فيبدأ بتشجيعهم مشيرا بقبضته، ثم يردد معهم ختام أحد الهتافات قائلا ''أمريكا وبريطانيا''.. لكنه بعد ذلك يشعر بأن المسألة تجاوزت حدها فيبدو عليه التذمر، قبل أن يقف ويحييهم بعد أن اقتنع بأنه لن يستطيع إكمال جملة واحدة من خطابه لهم.
في مقطع آخر..يبدو وأن إحدى القنوات وجدت في كلمات القذافي مادة للتأمل المشوب بفكاهة، فقامت بعرض جانب من كلمته في القمة العربية في سوريا عام 2008 وحينها يطلب من الحاضرين استخدام سماعات الأذن"فيظهر بشار الأسد وهو يستجيب مباشرة لذلك" قبل أن يستكمل القذافي كلامه فيطالب بالتحقيق في إعدام صدام حسين ويقول بشيء من الشعور بالأمان وكأنه يخاطب الآخرين من كوكب آخر" يمكن الدور جاي عليكم كلكم" يصمت فيظهر استغراب عدد من الرؤساء العرب، لكنه يحاول قطع تشككهم بعبارة تأكيدية حاسمة"إي نعم!!"..في حين يختتم ذلك المقطع بعبارة "لكن اللي برا بيسمعوا احسن من اللي جوا" ليبتسم بعدها ويترك للمشاهد استنتاج دلالة عبارة كتلك والتفكير هل كان الزعيم الليبي السابق مهتماً بنقاء الصوت والاستماع أكثر من استيعاب ماكان يقوله..الإجابة العملية وبحسب نتائج الأرض: "إي نعم"!.