في حَيِّنَا مُثَقَّف!
كنت أسكن، في إحدى البلاد العربية، في حيّ متناقض عمرانيا؛ إذ احتوى على عمائر من بضع شقق تحيط بها مساكن عشوائية يسمونها "خربات"، مكشوفة، تحيط ببعضها أسوار متهالكة وبأخرى النفايات! وكان سكَّان الشقق، في ليالي السمر والضجر يتسلون بمراقبة ما يدور في تلك "الخربات"! وكانت غرفتي مطلّة على إحداها، وساكنها فتى يداوم على الجلوس إلى طاولة عَفِنَة، ذات ثلاث أقدام ونصف؛ إذ كان كثيرا ما يرفع زاويتها العرجاء بركبته! أعرف أن رواسب الطعام شاركت في تكوينها، لتُصبح منتهى أماني العديد من الحشرات الزاحفة والطائرة، خاصة، في "الليالي الملاح"، ليالي الشمعة المضاءة ساعة والمنطفئة أخرى، تنير للفتى صفحة من كتاب يقرأه، وكثيرا ما كان يهوي به لقتل حشرة استباحت حرمة وجهه، أو تجرأت على مشاركته في القراءة.. أما في ليالي القيظ، فكان يلوّح به، علّه يحظى ببعض الهواء العليل، في ليالٍ رطبة عفنة؛ كتعفن مسكنه الذي اقتصر على غرفة ونصف، ورُبع آخر للفضلات! كانت لوحة واقعية لم "تُرَوْتَشْ".
جاري هذا أغاظ الجميع بـ"كبريائه" المُصطنع حينا، والفطري حينا آخر! كان دائم الحديث عن الثقافة والتثقف، كبوابة للتقدم والكرامة، والقضاء على الاستعمار وعلى الفقر والجهل وتحقيق الأهداف، مهما أظلم ليل أو بهت نهار! عبارات كان يرددها.. فكنّا نمازحه، مطلقين عليه الألقاب التي كنا نستشعرها، كـ"مثقف العتمة" و"الجار العالم" حينا و"الغامض" حينا آخر.. وكثيرا من الأحايين نستفزه، فيبتسم ابتسامة ملتوية، ليس استهزاء بنا بل لعلّةٍ في مفصل فكه، لتزداد صورته رفضا منا واستهزاء وفرارا!
لم تكن "الثقافة" تعني في "حَيِّنا" سوى "المُبْهَم"! أو قل: ماردٌ لا نقوى عليه.. أو هزلٌ مُضحك! حسبما يأتي ذكرها، وإن مرّت معنا عبارة "ثقافة" تجاوزناها، بعد تجاوز المدرس أو المدرسة لها! كان حالنا: درس عربي وآخر للحساب وحصيصة دين، والباقي لعب بلعب..، ولم يكن التلفاز آنذاك ليهتم بالثقافة؛ إذ كان بقناة و"نصف"! أما المذياع فلم يكن سوى ببغاء مسلٍ!
وكنَّا في أماسٍ كثيرة نلعب بين الأزقة وحاويات النفايات، أو نجلس في مداخل العمائر، خاصة في ليالي الصيف الحارة، أما الأهالي فيجتمعون فرقا، هنا وهناك، يتسامرون، يضحكون ويصرخون، وربما شتموا بعضهم بعضا.. لقد كانت "النميمة" في عزّها! أما "مثقفنا" فلم يشاركنا يوما في لعبنا!
ويشاء الله، بعد أربعة عقود، أن أعود لحارتي لأفاجأ به جالسا، ليس إلى تلك الطاولة ذات الأقدام الثلاث ونصف، بل على عتبة أسمنتية ذاقت الكثير من النفايات، مسندا ظهره إلى حافة باب يكاد يهوي، واضعا يده تحت ذقنه التي احتلها استعمار الشيب.. جُلت بناظري استحياءً وفضولا، فلم أجد أي كتاب.. حتى الشمعة أحيلت إلى قسم الوفيات! تملكني فضول عارم، فتوجهت إليه بخطى محسوبة، وأنا أشعر برهبة، وبرغبة في التراجع، لم يسرني حاله، خفت من ردة فعله.. فمظهره يوحي بالبؤس، وما حوله يوحي وكأن "تسونامي قذارة" قد هبت فمحت كل أثر للحياة الكريمة!