في مشهد الوداع .. حجاج يطبعون «قُبلة» على جبين مكة
كل على ليلاه في رسم المشاهد الأخيرة والمعبرة عن وداع مكة، وكل بثقافته يكتب "سكربتات" الساعات الأخيرة، ليسدل الستار على رحلة امتزجت بدموع الفراق، في رحلة سياحية إيمانية سعى فيها الحجاج جاهدين نحو تراجيديا الوداع. ولأن مكة اختزلت في دواخلهم انبعاثات الشوق ولوعات الحنين، كانت المشاهد أكبر من دواوين الشعر، وملاحم الشوق، انبرت أقلام ومدونات الحجيج في التعبير عن جنون اللحظات الأخيرة وما واكبها من لواعج الألم وتلافيف اللحظة الأخيرة.
فلاشات الكاميرات للحجيج لم تتوقف ثانية في رسم المشاهد الجميلة، فالكل متيم بحب مكة، والكل هام في عشقها، لتكون خاتمة الحب أنامل تشبثت بجلباب مكة وقدسيتها، فهي المدينة التي قدمت لهم الحب، وكان ثراها صعيد مغفرة، تجلت فيها معاني الطهر والإيمان.
في خضم اليومين الثاني عشر والثالث عشر من موسم الحج، تعددت ملامح وأوجه الوداع بمختلف مشارب وثقافات حجاج بيت الله الحرام، الذي بقدر ما كانت سعادتهم التي لا توصف بقدومهم إلى الأراضي المقدسة، بقدر ما آلمتهم مشاهد الوداع التي تمثلت بمشاهد كثيرة.
ما بين علامات الفرح والبهجة والسرور التي اقترنت بوجههم، ومسارعتهم إلى أداء زيارات الأراضي المقدسة، والأماكن التاريخية التي تحويها، وأمارات الحزن التي ارتسمت على محياهم، قام عدد منهم بتوثيق مشاهد الوداع، التي اختزلوها في صور تذكارية، أو تذكارات مكية، حتى أن البعض منهم اقتنى حفنة من تراب مكة، والمشاهد على ذلك كثير. حجاج الدول الأوروبية، وأمريكا وأستراليا، آثروا أن يحولوا مكة إلى استوديو تصوير، حددوا زواياها لتكون مناظر طبيعة، يوثقونها بوجودهم داخل تلك الزوايا، ليروها الأحبة والخلان في بلادهم، ولتكون مكة والمشاعر المقدسة حاضرة في أعينهم ولو طال الزمن عن بعدهم عنها. بينما فضل عدد من الحجاج الآسيويين زيارة الأماكن المقدسة، وطبع قبلاتهم في كل ركن وعلى جبين أي حجر فيها، في طقوس حتى وإن كانت غريبة أو غير متوافقة مع الشريعة الإسلامية، إلا أن إصرارهم ومحبتهم لمكة ومشاعرها، أبلغ من أن يتركوها دون أن يتبركوا أو يدعوا عند مقدساتها، لتكون آخر لحظة لهم فيها تذكرهم برحلة حج يتمنون أن تتقبل منهم عند ربهم.
أما حجاج إفريقيا، من الدول العربية، فأثروا أن تحوي حقائبهم التذكارات القدسية التي تشير إلى مكة المكرمة والأماكن المقدسة فيها، وانكبوا على شرائها، إضافة إلى الهدايا التي حرصوا على اقتنائها لتقديمها إلى أهلهم وأصدقائهم، مثل المصاحف، والسبح، وتماثيل المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، أما الحجاج الأفارقة من غير الناطقين بالعربية، فعمدوا إلى اقتناء ماء زمزم بكميات كبيرة يرون بها عطشهم، ويستذكرون من خلال مائها الذي يشفي من كل سقم، أبرز ذكريات وجودهم بين جنبات مكة ومقدساتها.
يقول حاج أسترالي: سأمضي بعد عودتي لسيدني مباشرةً في شرح تفاصيل التفاصيل، ما الذي ينبغي للحاج الأسترالي عمله، ماذا يشتري؟ أين يأكل؟ كيف يتحرك ويتنقل، كل مشاهداتي الإيمانية ستجد حبرا يكتبها ويؤطر صفحاتها، سأجعلها مدونة تحكي أجمل فصول حياتي التي عشتها".
وفي جانبٍ آخر يوثق حاج مصري مشاهد الوداع بتذكارات حرص على شرائها، لتكون هدايا إلى أفراد أسرته، وفي مقدمتها المصحف الشريف. يقول: "لن أستطيع أن أفسر وأترجم مشاعري في وداعي لمكة، فقد عشت فيها نحو شهر منذ قدومي إليها، لم أكن أتخيل صعوبة الوداع ولكن لا بد أن أعيش لحظاته القاسية، ففضلت أن أختزل كل ذكرياتي في مصحف وماء زمزم علهما يخففان عليّ وطأة الفراق واللوعة".