المخاطر المتأصلة في أعمال البنوك الإسلامية تتحول إلى خسائر محققة
على الرغم من نمو سوق التمويل الإسلامية واتساعها، وحاجتها إلى إيجاد منتجات إسلامية تلائم الواقع المالي والاقتصادي العالمي، وترقى بالصناعة إلى المنافسة، فإن المنتجات المالية الإسلامية ذات العلاقة بإدارة المخاطر تعاني قصوراً لا يتوافق مع حجم سوق الصناعة المالية الإسلامية، حيث يواجه القائمون على مؤسسات المال الإسلامية الحاجة المستمرة لمنتجات مالية من أجل التحوط للمخاطر المالية المختلفة، كما تحتاج الصناعة الإسلامية عموما إلى منتجات تحافظ على سمعتها على المدى الطويل كنموذج متميز لتقديم الخدمات المالية الإسلامية. ويأتي ذلك في ظل تأكيد دراسات على أن السمة البارزة للمؤسسات المالية الإسلامية تتمثل في ابتعادها عن صيغ وأدوات التمويل مرتفعة المخاطر، الأمر الذي يترك أنشطتها الاستثمارية عرضة للمخاطر دون امتلاك آليات كافية ومتفق عليها في الفقه الإسلامي للتحكم في هذه المخاطر.
ويشير في هذا الصدد سوناندو روي المستشار والمفتش في مصرف البحرين المركزي إلى أن الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في عام 2008 في الولايات المتحدة، وانتشرت بعد ذلك إلى دول العالم جلبت إلى المنطقة صدارة تحسين إدارة المخاطر في المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، وأن الوقت الحالي يوفر فرصة جيدة للتحرك نحو إدارة قوية للمخاطر على نطاق المؤسسات ERM، وبيَّن أنه على الرغم من نجاح قطاع البنوك الإسلامية في الجولة الأولى من الأزمة المالية العالمية نظرا لطبيعة المعاملات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، فإن القطاع يواجه المخاطر التي تنشأ عن ضغوط الانكماش العالمية، وأن المخاطر المتأصلة في خطط أعمال البنوك الإسلامية تحول هذه المخاطر إلى خسائر محققة.
وأوضح روي أن الطفرة العقارية التي سبقت الركود أغرت البنوك الإسلامية بالتركيز على التعرض exposure في المشاريع العقارية على نطاق واسع، والذي أثر بدوره في ربحية المصارف الإسلامية، وأضاف أنه بسبب حداثة العمل المصرفي، فإنه يتم تنفيذ القرارات التجارية الاستراتيجية في المصارف الإسلامية في بيئة يتم فيها وضع إطار حوكمة الشركات ونظم إدارة المخاطر والضوابط الداخلية وتنفيذها، وبالتالي فإن ضغوط الانكماش كشفت الحاجة الوشيكة لتعزيز إطار الحوكمة، وتطبيق عمليات قوية، إضافة إلى تطبيق المنهجيات الملائمة لتحديد المخاطر وتحسين نوعية الموارد البشرية في البنوك.
وأضاف أن الحاجة العامة برزت في المصارف الإسلامية لوضع نظام قوي وضوابط، ووضع إطار لإدارة المخاطر لتحديد وتقييم ومراقبة المخاطر، وأن التحدي الأول في هذا الصدد هو ضرورة ربط إطار إدارة المخاطر مع استراتيجية العمل.
وقال روي إن السيناريو الذي سببته الأزمة المالية العالمية تظهر ضرورة تعزيز فاعلية مخاطر وظائف الرقابة الداخلية، ومع استباقية النظام الرقابي فقد أوضح أنه من أجل تعزيز إدارة المخاطر فإن الوظيفة تحتاج إلى سلطة مع صوت لطرح كلمات التحذير إلى الإدارة العليا ومجلس الإدارة، كما أن الالتزام والامتثال للتدقيق الداخلي، يتطلبان أيضا الحصول على ما يكفي لإيصالهما إلى لجان الإدارة العليا ومجلس الإدارة لتسليط الضوء على الامتثال الفعال وأوجه الضعف في الرقابة الداخلية في الوقت المناسب.
وقد تم التأكيد على هذا الأمر في توجيهات صدرت في الآونة الأخيرة عن لجنة بازل وغيرها من الوكالات التنظيمية، لتنفيذ اللوائح وتعزيز حوكمة الشركات، والتي من المرجح أن تضطلع بدور أكبر في عملية صنع القرار الاستراتيجي في المصارف الإسلامية.
وأشار روي إلى أن الأزمة المالية العالمية التي هزت الأسواق الدولية أوضحت أن الصدمات يمكن أن تنشأ ليس فقط من المخاطر التي لا تغطيها متطلبات رأس المال التنظيمي فحسب، ولكن أيضا من مخاطر عناصر أخرى مثل السيولة، والتركيز، والمخاطر الاستراتيجية والسمعة، وفي حين تواجه البنوك التقليدية والإسلامية تحديات تطبيق العنصر الأول (Pillar I) والعنصر الثاني (Pillar II)، فإن القيود التي تفرضها الأسواق غير الناضجة بالنسبة إلى السيولة والعنصر والتعرض للمخاطر تجعل المصارف الإسلامية أكثر عرضة للاختلالات.
وذكر أن عدم وجود توازن في معالجة مخاطر العنصرين الأول والثاني، والذي يتجلى في نقاط الضعف في عملية تقييم كفاية رأس المال الداخلي، أدى إلى الحد من تقديم التوصيات المناسبة إلى الإدارة العليا بشأن الشدة والتأثير السلبي المحتمل للمخاطر المادية، وبالتالي فإن الإدارة العليا لمحرومة من نظرة شمولية لاستراتيجية الأعمال المستدامة.
وأكد روي أن على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية مواجهة التحدي في اعتماد نهج متزن في ربط الرقابة على رأس المال مع إدارة رأس المال الاقتصادي، ولذلك فإن اتفاقية بازل 3 التي سيتم تطبيقها لتعزيز رأس المال والسيولة والإطار العام لحوكمة المؤسسات المصرفية، تشكل تحديا جديدا للمصارف الإسلامية في شكل تعزيز نوعية رأس المال، وزيادة فرص الحصول على الأصول السائلة وإقامة حوكمة قوية للمخاطر.
كما ذكر أن التحدي الرئيسي الآخر بالنسبة للمصارف الإسلامية هو إدارة المخاطر الائتمانية التي قد تنشأ من مسئولياتها تجاه أصحاب حسابات الاستثمار، إذ إن المصارف الإسلامية في جميع أنحاء العالم تتبع نموذجاً لتقاسم المخاطر مع المستثمرين من خلال مجموعة متنوعة من الترتيبات التعاقدية، وأن مثل هذه الاتفاقات ليس فقط تعرضهم لمخاطر الاستثمار الأساسية ولكن أيضا لمخاطر كبيرة وقانونية.
وأشار روي إلى دور البنوك المركزية الرئيسي في ضمان بقاء رسملة البنوك الإسلامية جيدة، ووضع وتنفيذ استراتيجية عمل مستدامة وقادرة على إدارة وتخفيف المخاطر التي تتعرض لها، وأكد على أهمية مبادرة البنوك المركزية في في تعميق الأسواق من خلال تطوير وتوحيد الصكوك، والتركيز أيضا على التنفيذ الصارم لممارسات المخاطر الرقابية القائمة بغية ضمان وجود نهج منظم لإدارة المخاطر في المصارف الإسلامية.
ويرى خبراء في التمويل الإسلامي أن عدم وجود مشتقات وأدوات مالية إسلامية للتحوط وإدارة المخاطر التي تتعرض لها المؤسسات المالية الإسلامية، سيؤدي إلى عمليات انسحاب من المواجهة والمنافسة العالية بسبب ارتفاع نسبة المخاطر، ويضعف دورها الاقتصادي إلى مستوى هامشي، ويضعف مقدرتها على إدارة أصولها بما يرفع تكلفتها، وسيعرّضها للاختفاء مستقبلا في ظل المنافسة الحادة.
وكانت دراسة صادرة عن المعهد العربي للتخطيط قد أشارت في وقت سابق إلى أن السمة البارزة للمصارف الإسلامية تتمثل في ابتعادها عن صيغ وأدوات التمويل مرتفعة المخاطر، الأمر الذي يترك أنشطتها الاستثمارية عرضة للمخاطر دون أن تملك آليات كافية للتحكم فيها، وذكرت الدراسة أن المؤسسات الإسلامية لا تولي اهتماما كافيا بإدارة المخاطر، مضيفة أن تكييف عقود الخيارات لضوابط الشرع كي تصبح ضمن أدوات إدارة المخاطر في بورصة السلع يعد أمراً ممكناً.
كما تطرقت إلى تعريف أهم المشتقات المالية المستخدمة في إدارة المخاطر المالية وهي عقود الخيارات التي يمكن استخدامها في إدارة المخاطر وإدراجها ضمن أدوات التمويل الإسلامي في أسواق السلع، موضحا أن هدف إدارة المخاطر في مؤسسات التمويل هو التحوط من خسائر غير مقبولة وتخفيضها إلى أدنى مستوى.
وقالت الدراسة إن صيغ التمويل المضمون أو قليل المخاطر كالمرابحة والتأجير تمثل نسبة كبيرة من أصول مؤسسات التمويل الإسلامي نتيجة غياب الأدوات المالية التي تتحكم في أدوات التمويل ذات المخاطر المرتفعة كالمشاركة والمضاربة عن تلك المؤسسات، ولفتت إلى أن مؤسسات التمويل الإسلامي لجأت إلى استخدام بعض المشتقات المالية التقليدية كالعقود الآجلة والمستقبليات للتحوط من المخاطر المحتملة.
وكانت أكاديمية البحوث الشرعية الدولية للتمويل الإسلامي التابعة للبنك المركزي الماليزي قد أعلنت في شباط (فبراير) الماضي أنها تعكف على صياغة قواعد لتنظيم استخدام المشتقات بهدف تدعيم إطار إدارة المخاطر في هذا القطاع، وإصلاح الصورة السائدة عن ضعف التزام البنوك بقواعد الشريعة الإسلامية، حيث تساعد هذه القواعد على سد فجوة كبيرة في القطاع الذي يواجه صعوبة في إنتاج أدوات تحوط لا تشبه أدوات المضاربة، وهي عقبة رئيسية قد تعرض البنوك الإسلامية لتقلبات كبيرة في أسعار الصرف وأسعار الفائدة.
وتحدد القواعد التي تضعها الأكاديمية الحدود التي يتعين على البنوك الإسلامية الالتزام بها لكي تضمن أن استخدام المشتقات يتوافق مع تحريم الإسلام للقمار، وأكد أشرف وجدي دسوقي رئيس شؤون البحث في الأكاديمية أن المشتقات الإسلامية مازالت أداة مثيرة للجدل رغم أن الأهداف التي استحدثت من أجلها هذه الأداة كانت واضحة ونبيلة للتحوط من المخاطر المحتملة.
وتحظر صناعة التمويل الإسلامي التي يبلغ حجمها تريليون دولار الهياكل المصرفية الغامضة لتجنب الاستغلال، وهي قاعدة يقول بعض المراقبين إنها تحول دون استخدام أدوات التحوط الشائعة مثل مبادلات أسعار الصرف وأسعار الفائدة والعقود الآجلة، إلا أن بعض خبراء التمويل الإسلامي أشاروا إلى جواز استخدام المشتقات مادامت تستخدم لمواجهة تقلبات أسعار الصرف والفائدة وليس للمضاربة، وأكد دسوقي أن قواعد الأكاديمية التي يتعين أن يوافق البنك المركزي الماليزي عليها لتدخل حيز التنفيذ ستضمن استخدام البنوك الإسلامية للمشتقات للتحوط فقط عن طريق تقديم دليل على معاملة اقتصادية ترتكز عليها المشتقات، وأضاف أن القواعد ستتعامل أيضا مع المسائل القانونية والشرعية الناشئة عن الاستخدام الشائع لمفهومي الوعد والتورق لهيكلة المشتقات الإسلامية، مضيفاً الهدف الرئيسي من وضع حدود للمشتقات هو تقوية نشاط الصناعة لكي تصبح عملية التوافق مع الشريعة بأكملها أكثر شفافية وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الحد من عدم التوافق مع الشريعة ومخاطر سوء السمعة.