تعدد الآراء الفقهية يضعف اليقين القانوني للمصرفية الإسلامية

تعدد الآراء الفقهية يضعف اليقين القانوني للمصرفية الإسلامية

أكد متخصص في التمويل الإسلامي أن الخلافات الفقهية في المصرفية الإسلامية بصورتها الحالية غير صحية ولا تصنع الاستقرار لسوق المنتجات المالية الإسلامية، وأضاف أن الصناعة المالية في حاجة كي تدخل السوق بقوة إلى الاستقرار من ناحية اللوائح والتنظيمات، ومن ذلك الفتاوى الشرعية التي تعتبر نوعاً من القوانين، ويجب أن تكون مستقرة وتضيَّق فيها أسباب الخلاف، معتبراً أن اختلاف الفتاوى يضعف الولاء للمؤسسات المالية الإسلامية ومنتجاتها.
وما زالت ظاهرة اختلاف فتاوى المصرفية الإسلامية وتعددها محط انتقاد من قبل الهيئات والمؤسسات التعاقدية والاستثمارية، حيث تبرز إشكالية احتمال تغير الآراء والفتاوى الفقهية، ما يؤثر سلباً في تلك الاستثمارات والعقود، ويُنشئ حالة من عدم اليقين القانوني، ويساهم في تثبيط نمو صناعة المالية الإسلامية. وأكد في هذا الصدد لاحم الناصر المختص في المصرفية الإسلامية لـ ''الاقتصادية'' أن الخلافات الفقهية في المصرفية الإسلامية بصورتها الحالية سلبية وتضر الصناعة وتلغي شخصيتها، وأشار إلى أن كثيرا من الفتاوى الصادرة هي تلفيقية وحيل ومخارج تقرِّب المصرفية الإسلامية من التقليدية ولا تحقق مقاصد الشرع من الأحكام، وهذا يضر بالمصرفية الإسلامية لأنه يمسخ شخصيتها ويلغي الفوارق بينها وبين التقليدية، ويؤدي إلى أن يلفظها المجتمع كونها لا تلبي رغبة العميل الذي يبحث عن المنتج الإسلامي الحقيقي، ودعا إلى توحيد منهج إصدار فتاوى المصرفية بمرجعية واضحة تكون بعيدة عن الحيل الشرعية والحلول التلفيقية في المنتجات المالية.
ويؤدي اختلاف الآراء الفقهية إلى تقسيم منتجات المصرفية إلى عدة أسواق، ويُحمِّل المنتجات مخاطر إضافية تؤثر في تسعيرها، ويتسبب في تغيير توازن الطلب والعرض على المنتج، وقال الناصر إن وجود الخلافات الفقهية وبهذه القوة يضعف الولاء للمؤسسات المالية الإسلامية ومنتجاتها، حيث يؤثر عدم استقرار الفتيا ووجود الخلافات في المنتج بيعاً وتسعيراً وسيولةً، فعلى سبيل المثال فإن الخلافات التي تحيط بالبطاقات الائتمانية أدت إلى صعوبة تسويق هذا المنتج وأصبحت استفادة البنك من عملية البيع محدودة. وفي جانب الصكوك كذلك أدت الخلافات حول هيكل الصك إلى مخاطر شرعية وقانونية، وبالتالي إلى رفع تسعير الصك على أساس عدم اليقين، حيث العملاء لديهم مخاطر في عدم الاستقرار القانوني مما يؤثر في النتيجة التي سيحصلون عليها عند التقاضي، وذلك أن البيئة القانونية والقضائية المحيطة بالهيكل نتيجة الخلاف الفقهي ستؤثر في تسعير الصك، لأن العملاء لابد أن يحملوا هذه المخاطر على التسعير فيرتفع التسعير، إذ من المعلوم كلما ارتفعت المخاطر كان العائد أكثر، وإذا انخفضت المخاطر كان العائد أقل. من جانب آخر، كذلك عندما يحدث الخلاف فإن المؤسسات المالية تتوقف عن شراء الصك والمستثمر لا يجد من يشتريه، وهنا تحصل صعوبة في تسييل الصكوك وتصبح ورقة مالية تكاد تكون خاسرة، لأن صعوبة التسييل الناتجة عن الخلاف الفقهي تؤثر في تداول هذه الصكوك، ولذلك عندما حصلت أزمة صكوك دبي أشارت وكالة ستنادرد آند بورز في إحدى تقاريرها إلى أن الخلاف الفقهي إذا كان يؤثر في الوضع القانوني لحملة الصكوك فسيتم الإشارة لذلك أثناء تقييم الصك. إضافة إلى أن تفجر الخلافات الفقهية بهذا الشكل يؤدي إلى عزوف المؤسسات المالية الغربية عن الاستفادة من الأدوات المالية الإسلامية وعدم الاستثمار داخل الأسواق المالية الإسلامية.
وحول إمكانية إدراك أسباب الخلاف والعمل على التعايش معه ذكر الناصر أنه من ناحية الإدراك فهذا ممكن، فإن كان السبب فقهيا كأن تكون الفتوى شاذة أو حيلة على حكم شرعي فهنا تكمن المشكلة، وإما أن يكون تطبيقيا ناتجا عن سوء تطبيق الفتوى فهنا يتم تدارك ذلك عبر التصحيح. أما من ناحية التعايش مع الخلاف فهذا يعود إلى سبب ذلك، فإن كان بسبب سوء تطبيق الفتوى فيمكن التعايش مع ذلك عبر تصحيح الخطأ، وإما أن يكون الخطأ في الاجتهاد أو مسوغات الاجتهاد، وأعتقد أن التعايش هنا لن يتم وسيكون ذلك محرجا للعميل في قبول المنتَج ولن يحقق له الرضا الذاتي في التعامل مع المصرفية الإسلامية.
وأضاف الناصر أن تعدد الآراء الفقهية وتضاربها ليس مقبولاً وذلك في عالم المال والأعمال وفي صناعة تريد الانتقال إلى العالمية، وفي جو الانفتاح الإعلامي الذي أحدث ربكة للمتعاملين مع هذه الصناعة، وأكد أن هذه الخلافات ليست صحية لأن الصناعة المالية في حاجة إلى استقرار من ناحية اللوائح والتنظيمات، ويدخل في ذلك الفتاوى الشرعية والتي تعتبر نوعاً من القوانين التي يجب أن تكون مستقرة وتضيَّق فيها أسباب الخلاف، حيث تصبح الخلافات في منتجات غير منمَّطة يتم تفصيلها بناء على حاجة كل عميل على حدة، وهذا الأمر موجود حتى في المصرفية التقليدية، حيث تضع لكل عميل شخصية مستقلة وطريقة تعامل خاصة وهيكل مالي محدد.
وأكد الناصر أن إنشاء صناعة قوية تستطيع الدخول إلى السوق المالية بقوة يتطلب أن تكون مستقرة، واختلاف الفتاوى الحاصل لا يصنع هذا الاستقرار، فهناك خلافات فقهية في الصناعة المالية الإسلامية بين شرق آسيا والشرق الأوسط (ماليزيا والخليج)، وخلافات فقهية بين المؤسسات المالية الإسلامية في المنطقة نفسها أيضاً، فعلى سبيل المثال هناك هيئات شرعية مسيطرة في بعض المناطق لا ترى العمل بالتورق وأخرى تبيح ذلك، وكل هذه الأمور تمنع الاستفادة من الأدوات المالية الموجودة لدى كل مؤسسة. وهنا يجب النظر في أسباب الخلاف، فإن كان منع التورق المصرفي مثلاً يرجع إلى آلية التطبيق والتنفيذ، فيجب البحث في آليات وأدوات تطبيق أخرى تتلافى الملاحظات الشرعية وتُضيَّق شقة الخلافات.
وحول إمكانية القضاء على الخلافات الفقهية والوصول إلى أرضية مشتركة في فتاوى المصرفية الإسلامية أشار الناصر إلى أن القضاء على ذلك لا يمكن لأنه من صلب وصميم الفقه الإسلامي، ولكن يمكن تضييق دائرة الخلاف وأسبابها عبر بناء الفتاوى الفقهية على الآراء الشرعية الصحيحة ووفقا للأسلوب الشرعي الأصيل وبطريقة علمية صحيحة عبر البحث ودراسة الأدلة والجمع بينها.
ووسط الحديث عن تنميط المصرفية الإسلامية وتطوير مستندات موحدة من الناحية المعيارية وتحويل الأحكام الشرعية إلى معايير وقوانين محددة، يدور الجدل حول إمكانية ذلك وهل سيؤدي إلى الحجْر وعرقلة حركة الاجتهاد المالي، واعتبر الناصر أن مقياس ذلك يُحسب بناء على الأرباح والخسائر في هذا الباب، فهل فتح باب الاجتهاد على مصراعيه يفيد الأدوات والمؤسسات المالية الإسلامية ويصنع سوقا قوية وأداة قوية ويزيد من تجذر المالية الإسلامية أم أنه يضعفها؟ وهل تضييق شقة الخلاف تتم بالأدوات المالية الأساسية المعروفة والتي يتم تداولها على نطاق واسع أم في كل شيء؟ فإذا كان في المنتجات الأساسية التي يتم تداولها في الأسواق، وتتأثر بها الأسواق والمستثمرون على نطاق عريض، فلا شك أن قتل الخلاف في هذا الباب أولى لأن درء المفاسد مقدَّم في هذا الجانب، ثم إن هناك قاعدة شرعية تؤكد أن اختيار الإمام يحسم الخلاف. لكن ذلك لا يعني إغلاق باب الاجتهاد، لأن الصناعة المالية الإسلامية مازالت جديدة في الأسواق وتحتاج إلى اجتهادات فقهية لتطوير منتجات وأدوات جديدة.
من جانب آخر، فإن الخلاف الفقهي بحسب الناصر ما لم ينتج عنه منتج مالي فهو مجرد نقاش علمي وليس له أثر، ويبقى له أثر فكري ولكن ليس له أي قيمة مادية حقيقية، ولذا فإن خلافات المصرفية الإسلامية لا تؤثر كثيرا في الجانب النظري لم ينتج عن ذلك جانب عملي، فالخلاف حول المشتقات المالية ليس له أثر في الوقت الحالي ما لم يأت منتج مالي للمشتقات فيحصل فيه خلاف.
وحول السبل والوسائل لحل إشكالية اختلاف الفتاوى والآراء الشرعية أكد الناصر أن الحل في ذلك عبارة عن مشروع كبير لا يمكن لمؤسسة مالية بمفردها أن تقوم بذلك، فهو مشروع استراتيجي كبير يجب أن تتبناه حكومات ودول، ويعتمد خطة بعيدة المدى فيما يتعلق بمسائل البحث في الشريعة الإسلامية وإنتاج أدوات مصرفية إسلامية تحقق مقاصد الشرع، ويكون عبر تضافر جميع الجهود من إيجاد التشريعات القانونية، ووجود الهيئات الشرعية ومراكز أبحاث تتولى عملية البحث وإيجاد المنتجات، ثم يتم اختبار المنتجات في السوق وعرضه على المؤسسات المالية لتتبناه، وكذلك في إيجاد الأسواق المالية التي تقوم على تحقيق مقاصد الشرع.
وأول ملامح المشروع بحسب الناصر أن يتم تبنيه من قبل مجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا والذي يضم 54 بنكاً مركزياً في العالم كأعضاء عاملين، وقرابة 130 بنكاً إسلامياً وغير إسلامي وشركات تأمين كأعضاء مشاركين، إضافة إلى عضوية مراقبة للعديد من البنوك المركزية، حيث يتولى المجلس إعداد المعايير الرقابية المصرفية التي تخص البنوك الإسلامية، ويحظى بدعم البنوك المركزية في دول العالم الإسلامي، وكذلك بعض الدول في آسيا وأوروبا التي رخصت لمؤسسات مالية تعمل بالتوافق مع الشريعة الإسلامية. وإضافة إلى ذلك يتم الاستفادة من خبرات البنك الإسلامي للتنمية وقدراته المالية والإدارية والفكرية، ويتم كذلك وضع برنامج علمي يضم علماء من أنحاء العالم الإسلامي ومن كل المدارس الفقهية وليس فقط من الهيئات الشرعية، ويؤخذ كذلك لجان تنفيذية من كل مجمع فقهي في العالم الإسلامي، ويختارون من بينهم علماء على ألا يكونوا أعضاء في الهيئات الشرعية، وكذلك بعض العلماء المستقلين في العالم الإسلامي. ويكون لهذا البرنامج العلمي مراكز للأبحاث والدراسات، وكذلك جهة تنفيذية تجمع بعض التنفيذيين لإيجاد هياكل مالية للمنتجات ويتم اختبارها في بعض المؤسسات المالية، وفي حال نجاحها يتم تعميمها على كل المؤسسات المالية الإسلامية، ويتم منح هذا المنتج ستاندرد عالميا بكونه صالحا للتطبيق.

الأكثر قراءة