الغلاء: اختلاط الحقائق بالأوهام

يعبر عن الغلاء أو ارتفاع الأسعار تقنيا بعبارة التضخم. والتضخم يعبر عن عملية الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو بعبارة مكافئة: الانخفاض المستمر في قيمة النقود.
رغم كثرة الذين يتحدثون عن الغلاء والتضخم، إلا أن قلة من الناس التي تقول كلاما يدل على أنها تفهم التضخم على حقيقته. وعموما، من الملاحظ صعوبة فهم (فالاقتناع) التفسير الاقتصادي العلمي للغلاء أو التضخم على كثير من الناس.
مثلا، البعض يخلط بين معنى التضخم والأسباب المحتملة في تفسير نشأته، وبين مظاهره التي يراها الناس، والتي هي في حقيقتها جزء أو مكون محتمل من مكوناته، وليست سببا في أصل نشوئه. البعض يخلطون بين التضخم والجشع. كثيرون لا يفهمون أو لا يريدون الاقتناع بأن هناك علاقة أساسية بين التضخم وعرض النقود.
لنأخذ العبارات التالية التي سمعتها وقرأتها كثيرا:
ــــ ارتفاع الإيجارات سبب من أسباب التضخم.
ــــ زيادة السكان سبب من أسباب التضخم.
ــــ الغلاء عالمي، ولذا لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب على التضخم.
ــــ كلف تطوير المتر المربع من أرض خام 100 ريال (مثلا)، وإذا افترضنا هامش ربح 20 في المائة، فإنه ينبغي أن يباع المتر بـ 120 ريالا.
العبارة الأولى تعلل الشيء بجزء منه. وكأنها تقول غلاء الإيجارات من أسباب الغلاء! ارتفاع الإيجارات (أو أسعار المواد الغذائية، أو... إلخ) هو جزء من مكونات التضخم، ولكنه ليس سببا في نشوء التضخم، إذا أردنا الدقة في التعبير.
العبارة الثانية غير دقيقة لأن تزايد السكان لا يعني بالضرورة حصول غلاء، وإلا لكانت أكثر الدول ازدحاما هي أكثرها غلاء. قد يزيد عدد السكان دون أن ترتفع الدخول، تماما مثل أن يزيد عدد أفراد الأسرة دون أن يزيد دخلها ريالا واحدا، والنتيجة أن دخل الفرد انخفض، أما المستوى العام للأسعار فيبقى على حاله.
قد تتسبب زيادة السكان في تغيير الأسعار النسبية. مثلا، إذا بقي الدخل على حاله، ولكن زاد السكان، فالغالب أن الطلب على الإسكان يزيد، وتزيد الإيجارات، ولكن ليس المستوى العام للأسعار (أي لا يكون هناك تضخم)، وإنما إعادة توزيع لموارد الناس بين أوجه الإنفاق، فيزيد ما ينفق على السكن، مقابل خفض الإنفاق على غيره.
العبارة الثالثة غير دقيقة، وفيها تضليل. لو قلنا هناك غلاء في الدول الصين والهند، على سبيل المثال، فالسؤال: لماذا حدث الغلاء في تلك الدولتين؟
سيقال الازدهار الاقتصادي في الصين والهند جر إلى حصول تضخم فيهما. السؤال التالي: هل علاقة الازدهار الاقتصادي بالتضخم مخصوصة فقط بدول دون دول؟ طبعا لا.
وأما القول بأنه لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب في التضخم فعبارة مجملة غير دقيقة. قد تؤثر وقد لا تؤثر، وقد لا يكون الجواب مؤكدا، وعموما الأمر أكثر صعوبة مما يتبادر إلى ذهن الكثيرين.
لنفترض أن دخول الناس قد تضاعفت، أي اندبلت.
ماذا يحدث في حال أن الإنفاق تضاعف (اندبل) أيضا، بينما زاد المعروض من السلع والخدمات مرة ونصفا؟
النتيجة ارتفاع الأسعار. هذا أمر مؤكد. وإلا فإنه سيتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: علام تجاهلنا زيادة الإنفاق أكثر من الزيادة في المعروض؟ من تسلم هذه الزيادة وكيف؟
طبعا الزيادة في الإنفاق ليست سواء، فبعض الناس ربما انخفض دخله. ولكن سوء توزيع الزيادة في الدخل والإنفاق لا يمنع تأثير الزيادة الكلية على المستوى العام للأسعار وعلى الغلاء أو التضخم. وهذه نقطة تخفى على كثيرين في فهمهم لطبيعة الغلاء والتضخم.
واقعا ليس من الضروري أن ترتفع الأسعار بنفس نسبة ارتفاع الدخل، لوجود اعتبارات كثيرة. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك ٍأي فائدة من تزايد مستوى الأجور في الدول، ولتساوت الدول في مستويات المعيشة. ولذا لا يكفي النقاش النظري وحده للتعرف على التأثير، بل لا بد من أن يدعم بتطبيق كمي قياسي.
العبارة الأخيرة تفترض أسسا لا تصلح لتفسير الأسعار. ولو صلحت لكانت أسعار كل السلع أقل مما هي عليه بعدة مرات. مثلا، لكان سعر برميل النفط لا يتجاوز تكلفة استخراجه وتصديره وهامش ربح بسيط. وعموما الموضوع يحتاج إلى تفصيل لا يتسع له هذا المقال.
باختصار، الغلاء والتضخم نتيجة حب الدنيا، متفاعلا مع قضايا تتسم بالتعقيد، مثل القدر المتاح من الموارد والعرض النقدي وسرعة تداول النقود وأحوال العرض والطلب. ومن السذاجة تفسير الغلاء بتفسيرات تتجاهل تعقد القضايا تلك. وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي