«أرامكو» .. تجربة مؤسسية رائدة
كشفت دراسة أجراها موقع التوظيف ''غالف تالنت'' (سبتمبر 2011) عن أبرز 50 جهة عمل مفضلة لدى الشباب والفتيات السعوديين، وجاءت في المرتبة الأولى ''أرامكو السعودية''، تلتها ''سابك''، ثم ''شلمبرجير''. وكانت الدراسة قد استطلعت آراء 2600 طالب وطالبة تخرجوا أو على وشك التخرج في ست جامعات سعودية.
ما الذي دفع ذلك الجيل الواعد إلى الإجماع على اختيار ''أرامكو'' كجهة العمل المفضلة employer of choice بالنسبة لهم؟ الحقيقة أن ''أرامكو''، التي تعد أكبر شركة نفط على وجه الأرض، تمثل رمزا لبيئة العمل ''النموذجية''، ولهذا كان مطمح أولئك الشباب والفتيات الانضمام إلى 55 ألف موظف هم تعداد منسوبي الشركة في السعودية وخارجها.
في منتدى للموارد البشرية تحدثت مع أحد المشاركين خلال استراحة القهوة. وما إن تعارفنا وعلمت أنه يعمل في ''أرامكو'' إلا بادرته ممازحا بسؤال: ''لم أر في حياتي موظفا ''سابقا'' من أرامكو ex-Aramco خرج منها وعمل في غيرها .. كأنكم تعملون من المهد إلى اللحد؟!'' ضحك وقال إن الشركة توفر بيئة عمل ''جاذبة'' تجعل من الصعب على الموظف أن يغادرها.
فعلا، ''أرامكو'' تهتم بالموظف لكيلا يقع في ''هوى'' غيرها أو يفكر في ''هموم'' الدنيا التي تشغل ''الكادحين'' وتعطل عقولهم عن الإنتاج، فالشركة وفرت كل شيء لمنسوبيها في سبيل المزيد من العطاء: السكن، النقل، العلاج، تعليم الأبناء، الترويح، الادخار، الحوافز، والتدريب. وهي من ''الشركات'' القليلة التي يجتمع فيها الأمان الوظيفي والرضا الوظيفي، وهما بالمناسبة ليسا وجهين لعملة واحدة. محليا، يتجلى الفرق بينهما في القطاعين الحكومي والخاص، فالقطاع الحكومي يمنحك أمانا وظيفيا لكن ليس بالضرورة أن تكون مستمتعا بعملك أو بيئة العمل (عدم الرضا الوظيفي). أما القطاع الخاص، فقد يحقق لك الرضا الوظيفي، لكنك قد تشعر بأنك على كف عفريت (عدم الأمان الوظيفي)!
في ''أرامكو'' الكل سواسية، لا فرق بين موظف وآخر إلا بالجدارة، تلك الجدارة التي قامت عليها كل سياسات وممارسات الموارد البشرية للشركة. نحن هنا لا نروج لـ ''أرامكو''، إنما نحتفي بتجربة ''مؤسسية'' وطنية ناجحة في ظل مناخ بيروقراطي قاتل ومتخبط. فهذه الشركة وفرت بيئة عمل مثالية وخدمات ومنتجات عالية المستوى. موظفو ''أرامكو'' هم نتاج البيئة ''المنضبطة'' التي يعملون فيها، يتحلون بوعي عالٍ وتعامل راقٍ مع الآخرين. ذات مرة، روى لي صديقي أن عميلا دخل عليهم البنك، وعندما عرفوا أنه يعمل في ''أرامكو'' توقعوا من مظهره المرتب وأسلوبه المهذب أنه أحد كبار مسؤولي الشركة، لكنهم اكتشفوا أنه موظف بسيط في ''إدارة الأمن''!
ولأننا سئمنا من كثرة الاستشهاد بـ ''جوجل'' كرمز لبيئة العمل المثالية وبيل جيتس كرمز للرجل العصامي، فإننا نرى أولوية إبراز النماذج الوطنية الناجحة مهما كانت قليلة. وإذا أبرزت ''أرامكو'' على أنها رمز لبيئة العمل النموذجية، فلا بد أن نتذكر الوزير المهندس علي النعيمي رمز الرجل السعودي العصامي. فهذا القيادي هو الذي بنى ''ثقافة العمل'' في ''أرامكو'' القائمة على الكفاءة والإنتاجية والانضباط والالتزام. بدأ حياته الوظيفية ''مراسلا'' عند سن 12 عاما، لم يستسلم الفتى المكافح أو يتقاعس، واصل تعليمه وحصل على البكالوريوس والماجستير من أمريكا. عاد إلى وطنه وتدرج في العمل بين المكاتب وآبار النفط حتى أصبح أول رئيس سعودي لـ ''أرامكو'' عام 1983، ثم وزيرا للبترول والثروة المعدنية، ورئيسا لمجلس إدارة الشركة منذ عام 1995 حتى الآن. ''الحظ'' أو ''الواسطة'' لم يقفزا بالنعيمي إلى سلم النجاح الإداري، بل كانت عزيمته ومثابرته واجتهاده، بنى نفسه بنفسه، واعتبره السعوديون مثالا على ''الحلم السعودي'' الذي يتحدى كل المحسوبيات. إنني أستشهد دوما بقصة ''أرامكو'' (بيئة العمل) ومعها قصة النعيمي (العصامي) أمام الزملاء ''المتعجلين''، كأنهم لا يعلمون أن بلوغ قمة الجبل يبدأ من النحت في الصخر والتمرغ في طمي الوادي!
ولم تتوقف ''أرامكو'' عن إنجاب الكفاءات السعودية (العصامية)، ومنهم المهندس خالد الفالح (الرئيس الحالي لـ ''أرامكو'' وكبير إدارييها التنفيذيين)، والمهندس علي أبو علي (الرئيس التنفيذي لشركة صدارة) وغيرهم كثير. وإذا كانت بيئة العمل ''النموذجية'' في ''أرامكو'' وجهودها في رعاية الكفاءات الوطنية غير مستغربة، فإن اللافت هي ظاهرة أسميها ''الأرمكوقراطية'' Aramcracy، وهي استعانة الحكومة بخدمات ''أرامكو'' كلما واجهتنا أزمة أو قررنا تنفيذ مشروع لتجاوز البيروقراطية. فقد كسبت ''أرامكو'' ثقة الحكومة بمنهجها الإداري لدرجة كلفتها بالإشراف على مشروع بناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في ثول عام 2009، وكلفتها بالإشراف على مشروع تصريف مياه أمطار جدة في عامنا الحالي (الميلادي)، بما في ذلك تأهيل واختيار المقاولين، بل حتى إن الهيئة العامة للسياحة والآثار قررت الاستعانة بـ ''أرامكو'' لاستعادة الآثار المهربة خارج المملكة. إذن، ماذا لو استعنا بـ ''أرامكو'' لحل أزماتنا التنموية .. هل سنستغرق أمداً طويلاً لإصلاح التعليم أو الصحة أو الإسكان أو الاستثمار؟ ماذا لو ''استفزعنا'' بـ ''أرامكو'' لتعويدنا على السلوكيات الحسنة والتخلص من عاداتنا ''السبع'' السيئة؟
وبقدر ما تعكس استعانة الحكومة بـ ''أرامكو'' الثقة الكبيرة التي ُمنحت إياها، تسبب في الوقت ذاته ''إحراجا'' للأجهزة البيروقراطية التي تعيش ''منفصلة عن الواقع''. كم هي المرات التي تمنيت فيها أن أنسخ ''تجربة أرامكو'' بكل تقاليدها وممارساتها وألصقها على كل مؤسسة سعودية وعربية .. لكن الأماني مهما غلفت بنوايا طيبة لا تكفي وحدها لتغيير البشر والمؤسسات!