احتكار الأراضي ودوامة الإنفاق الحكومي
الدكتور صالح السلطان كاتب مرموق وصاحب قلم متخصص باقتدار في الشأن الاقتصادي، وهو بكل تأكيد ليس في حاجة إلى شهادتي هذه، فهو أكبر من أن يشهد له مثلي ممن ينهلون من معين علمه وخبرته. والدكتور صالح نشر مقالاً في هذه الصحيفة في الأسبوع الماضي بعنوان ''الاحتكار ليس سبب غلاء الأراضي في السنوات الأخيرة''، وهو المقال الذي حشد كثيرًا من ردود الأفعال والتعليقات التي جاء معظمها محملاً بانفعالات لحظية تجاوزت الفهم الصحيح لمضمون الرسالة التي أراد الكاتب الكريم إيصالها للقراء. ومع أنني أتفق مع مجمل ما جاء في هذا المقال، إلا أنني أود أن أدلي بدلوي في الحديث عن هذا الموضوع، عسى أن يسهم حديثي في التأسيس لمعالجة هذه المشكلة التي شكلت حجر الأساس في أزمة الإسكان، التي يبدو أنها أصبحت مستعصية على الحل.
مجمل ما أراد الكاتب الكريم قوله إن مسألة حبس الأراضي ليست جديدة على تركيبة سوق العقار السعودي، فهي ممارسة كانت وستظل شائعة في ثقافة الاستثمار العقاري في المملكة، طالما أنها بقيت بمنأى عن المعالجات التشريعية التي تحد منها وتمنع أثرها على واقع السوق. الكاتب قال أيضًا إن تفاقم الأزمة في السنوات الأخيرة بالتالي لا يعود إلى هذه الممارسة بالنظر إلى وجودها في الأساس في تركيبة السوق العقاري، إنما إلى زيادة الإنفاق الحكومي الذي أسهم في زيادة الطلب الذي أبرز بدوره حاجة إلى توظيف تلك الأراضي المحبوسة في دورة تطوير وإنتاج الوحدات السكنية والعقارية بأنواعها المختلفة، وأبرز بالتالي أثر ذلك الحبس على واقع السوق. وأنا لا أملك في الحقيقة إلا أن أتفق مع هذا التحليل الذي ساقه الكاتب، وأزيد على ذلك أن زيادة الإنفاق الحكومي أسهمت في زيادة الأسعار في مجمل متطلبات المجتمع الحياتية وليس في الجانب العقاري والإسكاني فحسب. هذا التحليل يقدم في رأيي المتواضع تفسيرًا للحالة التي يعيشها سوق العقار في المملكة، وواقع الأزمة التي يعانيها خاصة في جانب الإسكان، لكنه لا يقدم تبريرًا مقبولاً لهذه الأزمة، ولا لغياب أو تأخر تطبيق الحلول التي تعالج هذا الواقع، وتسهم في تقليل الآثار السلبية الناجمة عنه. وأقول إن ظاهرة حبس الأراضي، التي يتفق كلانا على أنها ممارسة قديمة في سوق العقار السعودي، هي ممارسة خاطئة من الأساس، بغض النظر عن تأثيرها السلبي المتفاقم نتيجة لزيادة الإنفاق الحكومي. والحقيقة أن هذه الممارسة كانت نتيجة للثقافة التي أسست لها الدولة عبر آليات منح الأراضي، والتي كانت سببًا مباشرًا في تحويل الأرض من عنصر إنتاج إلى عنصر استثمار، وأصبحت بالتالي سلعة تباع وتشترى وتخضع للمضاربة والاحتكار الذي تتفاوت آثاره تبعًا لتغير الطلب الذي يتأثر بعوامل كثيرة منها معدل الإنفاق الحكومي. وعندما نعود بالذاكرة إلى ما قبل 40 سنة خلت، أي قبل تأسيس صندوق التنمية العقارية، فإننا نرى أن أسعار الأراضي كانت لا تمثل أي عبء يذكر في منظومة البناء والتطوير العقاري، ونرى أيضًا كيف تضاعفت هذه الأسعار بمعدلات قياسية بمجرد إطلاق صندوق التنمية العقارية، وبدأ منح قروض البناء في ذلك الحين، وهو الذي خلق طلبًا متزايدًا أسهم في زيادة الأسعار نتيجة للحاجة إلى شراء الأراضي للبناء عليها، بدلاً من توفير تلك الأراضي من الدولة بشكل مباشر وبتكاليف رمزية. من هنا يتضح الخلل الهيكلي في بنية سوق العقار السعودي الذي جعل الأرض سلعة تجارية بدلاً من أن تكون عنصرًا غير ذي قيمة في مجمل تكلفة البناء.
قد يقول قائل إن برنامج منح الأراضي يمثل تفعيلاً من الدولة لمنهج توفير الأراضي معدومة القيمة لتكون أساسًا للبناء. وأقول إن هذا الكلام كان يمكن اعتباره صحيحًا لو أن تلك الأراضي كانت فعلاً جاهزة للبناء، ولو أن الدولة فرضت البناء عليها ومنعت تداولها بغرض الاتجار والتربح. لكن الممارسة التي انتشرت على أرض الواقع تبنت تداول تلك الأراضي والسيطرة عليها من قبل تجار العقار، وذلك لأنها لم تكن جاهزة للبناء بالنظر إلى مواقعها البعيدة عن البنى العمرانية للمدن وافتقارها إلى الخدمات والمرافق التي تجعلها جاهزة للبناء، كما أن السماح بتداولها وبيعها حولها إلى سلع تجارية تحقق لملاكها عوائد مالية لحظية غير مجدية على المدى القصير، فيما باتت مجالاً للاحتكار والاكتناز من العقاريين الذين بادروا بشراء تلك الأراضي بغرض التربح من زيادة أسعارها على المدى الطويل، دون أن يقدموا أي قيمة مضافة على تلك الأراضي لا بالبناء ولا بمدها بالخدمات ولا حتى بالرصف وتمهيد الطرق على أقل تقدير. ومن جهة أخرى، فإن منح الأراضي ذات المساحات الشاسعة كانت سببًا مباشرًا في ترسيخ هذه الظاهرة، إذ كانت تلك الأراضي، وما زالت، تحبس لفترات طويلة حتى يتقدم أحد العقاريين بعرض لشرائها وفتح مساهمة عقارية لدفع ثمنها وتطويرها وتجزئتها، ليتم بيعها فيما بعد بالمزاد العلني الذي يتقدم له في العادة صغار العقاريين الذين يقومون بدورهم بعرضها للبيع في دورات متتالية ومتتابعة من الربحية التي يتم بناؤها في سعر الأرض، حتى تصل إلى المستهلك النهائي مشبعة مضخمة الثمن. هذا الواقع هو الذي جعل العقاريين يعلنون تذمرهم من وقف المساهمات العقارية بقرار وزارة التجارة قبل نحو ست سنوات، وهو القرار الذي جاء بهدف حماية صغار المستثمرين من أولئك العقاريين الدخلاء على السوق، والذين كانوا سببًا مباشرًا لتلك المساهمات المتعثرة التي احتجزت مدخرات الناس وجمدت ملايين الأمتار من الأراضي ومنعتها من التطوير والدخول في دورة البناء والإنتاج.
خلاصة القول، الإنفاق الحكومي يتسبب كما هو الحال دائمًا في زيادة الطلب على كل السلع بما فيها الأراضي والوحدات العقارية، وهو ما حصل بالفعل في كل الطفرات السابقة. والسبب الرئيس في مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي هو الحالة والثقافة التي جعلتها سلعًا تباع وتشترى عوضًا عن أن تكون عنصرًا معدوم القيمة في دورة الإنتاج والبناء. وأن يأتي العلاج متأخرًا خير من ألا يأتي أبدًا. ومن ثَمَّ، فإن التشريعات التي تسهم في تصحيح هذا الواقع ومعالجة آثاره السلبية باتت مطلبًا ملحًّا في ظل هذه الأزمة الخانقة التي باتت تثير مخاوف من آثار سلبية على الأمن القومي والوطني. وأول هذه التشريعات هو فرض الرسوم على الأراضي البيضاء المخدومة، والسيطرة على تداول الأراضي بمنع بيعها بغرض المتاجرة والتربح، وربط التملك بالإحياء الفعلي القائم على البناء والتطوير. ولنا في الدول المجاورة شواهد كثيرة على نجاح مثل هذه التشريعات التي أنقذتها من أزمة خنقت أحلام أبناء وطن يملك من الإمكانات والموارد التي حباها بها الله ما فاقت به قدرات تلك الدول.