إسرائيل وجنوب السودان
العلاقات الحميمة بين إسرائيل وجنوب السودان ليست مفاجئة للمتابعين لقصة العلاقة بين إسرائيل والجنوب؛ لأن الجنوب كان دائمًا محطة للمؤامرة البريطانية على وحدة السودان حتى قبل نشأة إسرائيل. وكانت بريطانيا أول من خطط لهذه المؤامرة خلال احتلالها الطويل للسودان ومصر، وهي التي بدأت المؤامرة فعليًّا بمحاربة الطابع العربي والإسلامي في جنوب السودان، وهي التي وضعت عنوان حق تقرير المصير لأهل الجنوب على أول مؤتمر عقدته في مدينة جوبا عاصمة الجنوب عام 1947. وقد يكون ذلك من قبيل الصدف العجيبة أن تبدأ المؤامرة على فلسطين على الأرض وفي السودان في وقت واحد، حيث صدر قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة في ذلك العام، فأصبح حق تقرير المصير للجنوب من الشمال المحتل في نظر هذه المؤامرة موازيًا ''لحق اليهود في تقرير مصيرهم في فلسطين'' من ''المحتل الفلسطيني'' والبريطاني وفقًا للنظرية الصهيونية. ومنذ 1947م كان الارتباط وثيقًا بين خطة التهام فلسطين وخطة فصل الجنوب. ويذكر قراء ''الاقتصادية'' أنني تابعت المؤامرة في سلسلة كبيرة من المقالات في هذا المكان على الأقل منذ اتفاق نيفاشا عام 2005، الذي يشبه تمامًا قرار التقسيم في فلسطين، وإن كان بإرادة جريحة من جانب الخرطوم. تلك حقائق لا يجوز القفز عليها بحجة أننا أمام واقع جديد لا سبيل إلى إعادته أو تغييره. والحق أن فصل الجنوب عن السودان لم يكن بريئًا كما صورت الدعايات بأن الخرطوم تفرض الإسلام وأن الخرطوم تفرض زواجًا على طرف قاصر، أو كما قالت الحكومة السودانية إن كل الآلام والتضحيات لفصل الجنوب هدفها تحقيق السلام مع الجنوب؛ لأن توثق العلاقات الإسرائيلية مع جنوب السودان مكافأة إسرائيل والولايات المتحدة على جهودهما لزرع قاعدة للتآمر ليس فقط على السودان ووحدته، لكن على مصر والعالم العربي، ولهذا قلت مرارًا خلال معالجتي لهذه الملحمة في هذا المكان إن فصل الجنوب هو أحدث نجاح للمشروع الصهيوني لهزيمة العالم العربي في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي.
فقد نتج عن فصل الجنوب عن الشمال صراع داخل الجنوب وصراع آخر بين الجنوب والشمال حول مناطق الرعي والبترول في منطقة أبيي وكردفان، كما نتجت عنه مساندة الجنوب لمتمردي دارفور والسعي إلى تمزيق السودان. تساند هذا المخطط ضغوط عاتية لإضعاف حكومة الخرطوم التي شاء لها القدر أن يفصل الجنوب في عهدها، وهي المسؤولة عن جزء فقط من المأساة. وقد اُسْتُخْدِمت المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير بطريقة مشبوهة سبق لنا أن شرحناها مرات عدة، كما أن القمة العربية في الدوحة رفضت صراحة موقف المحكمة من الرئيس البشير؛ لأن هدفه ليس العدل للضحايا، وإنما تطويع إرادة الحكومة السودانية للمؤامرة. كنا نتمنى أن يؤدي فصل الجنوب إلى تهدئة الخواطر وتمهيد الطريق لإعادة الارتباط في الدولة السودانية الواحدة من أجل السلام والاستقرار في نظام ديمقراطي يرضي الشعب السوداني، لكن أن يكون الجنوب المستقل عن الشمال بؤرة للتآمر مع إسرائيل، فهذا ليس شأنًا خاصًّا به، إنما هو جزء من مشروع يضر بجيرانه، وهو مخالفة صريحة لأحكام القانون الدولي.