وهل يصلح «ساهر» ما أفسد الدهر؟
نظام ساهر كان منذ أن ولد موضوعا للنقاش والتداول في مقالات كتاب الرأي في الصحف، وفي برامج الحوار الإذاعية والتلفزيونية، ويكاد لا يكون هناك كاتب أو إعلامي إلا وتناوله بالحديث الذي راوح بين النقد اللاذع والإشادة المفرطة. وعنوان هذا المقال كان مدرجا على صفحة بيضاء على حاسوبي الصغير منذ مدة طويلة، إذ إنني لم أكن من المتفائلين بهذا النظام. غير أنني آثرت أن أؤجل تسجيل مشاعري وقناعاتي حوله لبعض الوقت، عله يفلح في تغيير تلك القناعات إن منحته الفرصة ليخوض تجربة الاختبار العملي على أرض الواقع. والآن، وبعد مرور فترة كافية من تطبيق هذا النظام، وجدت أنه حان الوقت لأطلق سراح هذا المقال، عله يسهم في فهم صلب المشكلة التي وضع النظام لمعالجتها، ومن ثم إلى توجيه انتباه القائمين عليه إلى مواطن الخلل وأدوات المعالجة الفاعلة، هذا إن كان الهدف من هذا النظام هو حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم من حوادث السير المروعة، وليس جباية الأموال من مخالفات تسجلها كاميرات يتم وضعها بعناية ومهارة في مواقع محددة ومدروسة بعناية بناء على ما تحققه من عوائد مالية مجزية.
أبدأ أولا بتسجيل المشهد العام في الطرق والشوارع منذ أن بدأ تشغيل نظام ساهر، وهو مشهد يعلمه الجميع، ويرونه كل يوم بكل ما يحمله من تناقضات مخلة وتعديات فاضحة. كاميرات نظام ساهر أفلحت بالفعل في ضبط الحركة المرورية في الطرق والتقاطعات التي تم تركيبها فيها، وذلك بعد أن أصابت بلظى مخالفاتها قادة السيارات، ومدت أيديها، أو ربما أسلاكها، إلى جيوبهم ومحافظهم وحساباتهم البنكية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كم عدد الكاميرات الذي تستطيع الشركات المشغلة لهذا النظام تركيبه؟ وكيف يمكن لها أن تضمن مراقبة كل الطرق وكل التقاطعات بهذه العين الساهرة؟ سؤالي هذا ينطلق من الواقع الذي نراه جميعا كل يوم، والذي يبين أن الالتزام المروري لدى السائقين إنما هو التزام مؤقت ولحظي يأتي مدفوعا بالخشية من وميض الكاميرات، وليس مدفوعا بقناعة بضرورة الالتزام بالأنظمة حتى لو غابت عين الرقيب. فالسائقون يصبحون كالملائكة في التقاطعات التي تراقبها الكاميرات، والسيارات تصطف كما الجنود في كتيبة من كتائب الجيش، وحركة المرور تنساب سلسة كمياه النهر. أما إن غابت أعين الكاميرات في أحد التقاطعات فإنه يصبح مستباحا لقطع الإشارات، والتزاحم على مقدمة الصفوف، والالتفاف العشوائي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس. ما إن تغيب الكاميرات تغيب معها كل المبادئ وكل الأخلاق، وتصبح كل الأنظمة مستباحة لا قيمة لها. أنا هنا أتحدث عن مثل واحد من صنوف المخالفات والتجاوزات في نمط القيادة في شوارع مدننا السعودية، ولعل القارئ الكريم يسعفني في اختصار الحديث إن هو قام بتعميم ذات الظاهرة على معدلات السرعة الجنونية في الطرق، والتجاوزات العشوائية من مسار إلى مسار، وحالات الوقوف المزدوج والعشوائي والازدحامات الخانقة أمام المطاعم والمقاهي، وغيرها الكثير من مشاهد التعدي السافر على الأنظمة أولا وعلى الأخلاق ثانيا في الشوارع والطرق.
إذن، وبعد هذه الفترة من تطبيق النظام، فإن السؤال عن جدواه وفاعليته سؤال مشروع، خاصة في ظل فشله الملموس في تصحيح سلوكيات الناس عوضا عن ضبطها ضبطا مؤقتا، أو توظيفها لتحقيق مكاسب مادية، وهو ما خلق بين الناس وأصحاب النظام هوة سحيقة من فقدان الثقة وغياب المصداقية. المشكلة، أن هذا النظام خلق تجاهه حالة من العدوانية لدى الناس، وهو ما جعلهم - في رأيي - يصبحون أكثر جرأة على ارتكاب المخالفات واستباحة الطرق وحقوق الآخرين إن غابت أعين كاميرات الرقابة. وأنا لم أستطع في الحقيقة أن أصدق تصريحات المسؤولين عن انخفاض معدلات الحوادث المرورية كنتيجة لتطبيق نظام ساهر، إذ إنني أعتقد جازما أن أعداد الحوادث انخفضت في بعض المناطق الخاضعة لرقابة الكاميرات، لكنها زادت في بقية المواقع البعيدة عن الرقابة.
في ظل هذا الواقع المرير، فإن الحل لن يكون بزيادة عدد الكاميرات وتوسيع نطاق انتشارها، إذ إنه من المستحيل تغطية كل الطرق وكل التقاطعات في كل المدن والقرى السعودية بمساحتها الشاسعة، ناهيك عن الطرق الممتدة بين المدن، التي تشهد هي أيضا صنوفا أخرى من التعدي على الأنظمة جعلتها أشبه بحلبات سباق السيارات. وفي الحقيقة، فإن نظام ساهر ليس بالنظام السيئ، لكنه عجز وسيظل عاجزا عن تحقيق الأهداف التي وضع من أجلها لأنه جاء مبتورا عن منظومة الحل الشامل الذي كان يجب أن يشمل إلى جانب هذه الأداة أدوات أخرى ربما تكون أكثر أهمية وفاعلية منه. إن تصحيح سلوكيات الناس الخاطئة لا يتحقق بالرقابة والعقوبات وتوقيع المخالفات، فكل هذه الإجراءات ستعجز عن معالجة هذا الخلل، هذا إن لم تؤد إلى مفاقمته في كل مرة تغيب عنها أعين الرقابة. علاوة على أن هناك فئات لا تعبأ بالغرامات مهما ارتفعت قيمتها وتضاعفت، وهي بالتالي تترفع فوق الأنظمة وفوق وسائل الرقابة وكاميرات النظام. الشيء الأكيد أن نمط القيادة الذي نعاني جميعا منه إنما هو حالة سلوكية متأصلة تبرز فيها ملامح الأنانية والعدوانية والتعالي تماما كما تبرز في مجالات أخرى في حياة الناس، وليست نمطا عارضا يمكن معالجته بأدوات وقتية قاصرة. وبالتالي، فإن مسار التصحيح والمعالجة كان يجب أن يتعاطى مع هذا الواقع، وأن يتبنى حلولا علاجية لا تقتصر على العقوبات المالية وحدها، بل تتبنى حلولا تربوية وإعلامية واجتماعية وتخطيطية إلى جانب حلول الرقابة والتغريم. وفي النتيجة، يصبح نظام ساهر إحدى أدوات المعالجة الشاملة، وليس وحده حلا منفردا قاصرا مبتورا. برنامج المناصحة الذي تبنته وزارة الداخلية، وهي الوزارة ذاتها المسؤولة عن إدارة المرور، أفلح في معالجة مشكلة الإرهاب وتصحيح سلوكيات ومفاهيم شباب من أبناء الوطن انحرفوا وضللوا بعيدا عن الحق، وكان إحدى أذرع حل هذه المشكلة إلى جانب ذراع الحل الأمني والرقابي. الأسلوب ذاته هو ما نحتاج إليه لحل مشكلة الحوادث المرورية وسلوكيات القيادة المتهورة، وهي لعمري أكثر إرهابا على الناس من الإرهاب ذاته، خاصة إن قارنا أرقام الضحايا والخسائر في الحالتين.