هيئة المهندسين.. الساكت عن الحق

مقال الأسبوع الماضي الذي تحدثت فيه عن بعض مظاهر التستر الرسمي الذي تمارسه وزارة التجارة والصناعة وبعض أجهزة الدولة الأخرى أثار كثيرا من ردود الأفعال والتعليقات بشكل أبرز اهتماما كبيرا من الإخوة القراء بهذه القضية التي طرحها المقال. أحد هذه التعليقات جاء من أخي المهندس سعود الأحمدي، نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمهندسين في دورته الماضية وعضو المجلس نفسه في دورته الحالية.
المهندس سعود قال في تعليقه إن الهيئة تحدثت عن هذا الموضوع مع أعلى المستويات وخاصة مع شركة دار الهندسة، وأن الهيئة تلقت وعودا بمعالجة هذا الموضوع، وقال أيضا إن الهيئة تنتظر الموافقة على نظام مزاولة المهنة الذي يعطي الهيئة صلاحيات أوسع. هذا التعليق من المهندس سعود يشير إلى حالة الضعف التي تعانيها الهيئة، والتي جعلتها عرضة للتعدي على اختصاصاتها المحددة بموجب النظام الأساسي من جهات حكومية أخرى وعلى رأسها وزارة التجارة والصناعة التي تتبعها الهيئة من الناحية التنظيمية. ومع أني أتفق مع المهندس سعود على مجمل هذا التشخيص، إلا أنني لم أقتنع باتخاذه مبررا لسكوت الهيئة عن هذه المخالفات، إذ إنه يتوجب عليها أن تمارس مهامها التي حددها النظام، والرفع إلى ولي الأمر عن أية مخالفات أو اختراقات تمارسها أية جهات حكومية أخرى، حتى لو كانت الجهة ذاتها التي تتبعها الهيئة. وهي بهذا السكوت الذي تلعب فيه دور الضحية إنما أصبحت كالساكت عن الحق، وانقلبت جلادا ظالما على منسوبيها من الكيانات الهندسية الوطنية.
المعلومات التي وردتني من بعض الغيورين على الوطن عقب نشر المقال أبرزت أن حالة التستر التي تحدثت عنها أوسع مما توقعت، وتتجاوز كثيرا حالتي الشركتين اللتين تضمنهما المقال. فعدد الشركات التي تقدم خدمات الاستشارات الهندسية وفق تراخيص مؤقتة من وزارة التجارة والصناعة يبلغ ثماني شركات تعلم عنها الهيئة السعودية للمهندسين، وكانت موضوعا لمخاطبات سابقة بين الهيئة والوزارة. هذا العدد لا يتضمن مكاتب أخرى لا تعلم عنها الهيئة قد تكون حصلت على تراخيص مؤقتة من الوزارة، ولا تلك الكيانات التي تقدم خدمات الاستشارات الهندسية، بينما هي تحمل تراخيص لأنشطة أخرى منها نشاط المقاولات على سبيل المثال، التي تعد حالة شركة بارسونز العالمية التي أشرت إليها في مقالي السابق الحالة الأبرز، هذا إلى جانب مؤسسات المقاولات الصغيرة التي دخلت عبر بوابة هيئة الاستثمار وأضحت تمارس كثيرا من الأنشطة التي لا تندرج ضمن حدود تراخيصها الأصلية. سكوت الهيئة عن هذا الواقع أمر غير مقبول، فهي تحمل أمانة ألقاها على عاتقها ولي الأمر الذي أوكل إليها مهمة التنظيم والرقابة على القطاع الهندسي. وإذا كانت وزارة التجارة والصناعة قد استمرأت خرق حدود اختصاصات الهيئة والتعدي عليها، فإن هذا الأمر لا يجب أن يكون سببا لتقصير الهيئة في أداء واجباتها والوقوف ضد مثل هذه المخالفات. قد يقول قائل إن الهيئة مسؤولة فقط عن الكيانات التي تتبعها وتصدر لها تراخيص عمل نظامية، ولا تتحمل المسؤولية عن قيام كيانات بممارسة أنشطة غير مرخصة. وأقول هنا إن نطاق اختصاص الهيئة يشمل إدارة وتنظيم القطاع الهندسي برمته، ويفرض عليها منع الدخلاء على القطاع من التعدي عليه، حتى ولو كانوا حاصلين على تراخيص من جهات حكومية أخرى لا تملك صلاحية لذلك. تخيلوا معي لو أن وزارة الزراعة أصدرت تراخيص لممارسة أنشطة طبية مثلا، هل كانت هيئة التخصصات الطبية لتصمت عن هذا الأمر؟ هيئة سوق المال أيضا مسؤولة عن تنظيم قطاع الخدمات المالية، وهي تنبري على الفور لمنع أية جهة تقوم بجمع الأموال دون أن تحصل على تراخيص مسبقة من الهيئة، مع أني أرجو منها بالمناسبة أن تكون أكثر حزما في وقف المساهمات العقارية غير النظامية التي نعلم جميعا أنها ما زالت تمارس في الخفاء على نطاق واسع.
أنا في الحقيقة لا أتوقع أن يحرك هذا المقال ساكنا لدى الهيئة، خاصة أنها تعيش حاليا حالة من الصراع الداخلي في مجلس إدارتها الذي أفرزه نظام انتخاباتها البالي. ولهذا، فإنني أتوجه بحديثي إلى الدكتور توفيق الربيعة وزير التجارة والصناعة الجديد، راجيا منه أن يمد يد إصلاحاته التي شهدها الجميع في هيئة المدن الصناعية إلى أروقة وتعاملات وزارته الجديدة، وأن يقمع مظاهر التستر الذي تمارسه الوزارة بعد تلبيسها بأنظمة وتعاميم وقرارات ما أنزل الله بها من سلطان، وأن يوقف العمل بنظام التراخيص المؤقتة التي اكتسبت في الأغلب الأعم صفة الدوام، أو على الأقل أن يلزم الكيانات التي تحصل على مثل هذه التراخيص المؤقتة بالحصول على تراخيص لمزاولة أنشطتها إن كانت هذه الأنشطة خاضعة لاختصاص جهات حكومية أخرى. وفي حالة الشركات الهندسية، فإن كل ما أرجوه من الوزير أن يلزم الشركات الأجنبية الحاصلة على تراخيص مؤقتة بالحصول على تراخيص مهنية لممارسة أنشطتها الهندسية من الهيئة السعودية للمهندسين، وأن يتم تحديد مدد هذه التراخيص المؤقتة وربطها بإنجاز مشروع واحد فقط لكل منها، لا أن تكون أداة للتواجد الدائم واقتناص عقود المشروعات الواحد تلو الآخر. أما هيئة المهندسين فأدعوها إلى الخروج من حالة الضعف والصمت التي سيطرت عليها، وأن تنبري لأداء مهامها وحماية منسوبيها، وأن تلجأ إلى ولي الأمر الذي لا يظلم عنده أحد إن هي لم تجد من وزارتها الأم أذنا صاغية وقلبا رحوما.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي