عبد الله بن عبد العزيز في الفاتيكان

لا بد أن الكاردينال تارتشيزيو بيرتوني، أمين سر الفاتيكان، يعتبر 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 يوماً تاريخياً في عهد البابوية المسيحية، ففي هذا التاريخ قام الملك عبد الله بن عبد العزيز بزيارة للبابا بنيديكتوس السادس عشر في مقره في مبنى الفاتيكان في روما على بعد خطوات من كاتدرائية القديس بطرس، التي تعتبر أكبر كنيسة مسيحية في العالم. عندما صافح الملك عبد الله بابا الفاتيكان، كان يعبر عن الإيمان العميق بأن الحوار هو السبيل الأمثل لحل القضايا الدولية المختلف حولها بالطرق السلمية وضرورة السعي للتعايش بين الأفراد والمجتمع.
هذا الأسبوع، وبناء على توصية من مجلس الشورى، قرر مجلس الوزراء الموافقة على اتفاقية تأسيس مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الموقع عليها في العاصمة النمساوية فيينا في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2011. تُجسد هذه الاتفاقية دعوة المملكة للحوار بين الحضارات والديانات والثقافات من منطلق إدراكها التام أن ما يجمع الغالبية العظمى من شعوب العالم هو أكثر مما يفرقها، وبالتالي فإن التعايش السلمي بين الأديان مطلب إيجابي ومُلِح ومشروع.
زيارة الملك عبد الله للفاتيكان ومن ثم تأسيس المركز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، يؤكدان حرص المملكة على أهمية الحوار بين الأديان والحضارات لتعزيز التسامح الذي تحث عليه جميع الأديان ونبذ العنف وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار لشعوب العالم كافة. دار الحوار بين الملك عبد الله وبابا الفاتيكان على بُعد أمتار من ساحة الكنيسة التي صممت لتضم جميع الأمم بمختلف معتقداتهم وألوانهم وأجناسهم.
أحد أهم أسباب تأسيس المركز، إضافة إلى كونه منتدى لممثلي أتباع الأديان والمؤسسات الثقافية والخبراء من أجل تعزيز التواصل وتبادل المعلومات، هو تحقيق التوافق والسلام على الصعيد العالمي بما يتماشى مع أنظمة الأمم المتحدة وحل النزاعات بالطرق السلمية. من هذا المنطلق، علينا الالتزام ليس فقط بالاعتراف الشكلي للحوار مع باقي الأديان، لكن أيضاً المحافظة على مبادئ الكرامة الإنسانية وقيمها، وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. كذلك نريد أن يكون المركز حجر الزاوية لحوار مستمر ومستقر وتفعيل جاد للتعاون مع جميع الدول لتفعيل الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والمبادرات التي لها أهداف مشابهة وليس فقط كمبادرة مؤقتة ينتهي مفعولها بانتهاء افتتاح المنتدى. ولعل خبرتنا القصيرة في الحوارات الوطنية تضع الأسس للتحاور مع الآخر واحترام رأيهم بغض النظر عن عقيدتهم أو جنسياتهم.
ليس من المستغرب أن يؤكد الملك عبد الله عند لقائه بابا الفاتيكان أن ما يجمع بين الشعوب قيم إنسانية مشتركة وأن خير تعبير لهذه القيم المشتركة هو ما جاءت به الأديان وأن في العودة إلى هذه القيم مخرجا لما تعانيه الشعوب من ويلات الخلافات والصراعات. شهد العالم في هذا اللقاء على مبادرة المملكة لتفعيل ثقافة الحوار والإسهام في تعزيز التواصل الإسلامي - المسيحي تجسيداً للخير والطمأنينة والوفاق الاجتماعي وتعزيز روح الاحترام والمحافظة على قدسية المواقع والرموز الدينية لجميع الأديان.
وتحضرني هنا كلمات سفيرنا في بيروت علي العسيري بأن الإسلام براء من العديد من الأفكار التي ألصقت به جزافا، فالمبادرة التي أطلقها الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات تعبّر عن الصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف، الذي يدعو إلى الانفتاح والتفاعل مع الآخر وتقديم الأفضل للإنسانية جمعاء. ثم تلقفت الكنيسة المارونية اللبنانية من خلال ''الجامعة الأنطونية'' مبادرة المملكة وسعت إلى نشرها في الكنائس الأخرى في دول المنطقة للتأكيد على العلاقات المميزة بين المسيحية والإسلام.
عندما عقد مجلس إدارة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات اجتماعاً في العاصمة النمساوية فيينا في منتصف آذار (مارس) الماضي، ناقش الأمين العام المكلّف للمركز فيصل بن معمر مع المشاركين الآخرين الترتيبات النهائية لافتتاح المركز في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. لا شك أن المبنى والتجهيزات محاور مهمة جداً، لكن الأهم هو كما جاء في تصريح بن معمر تعزيز ثقافة الحوار وتشجيع الاحترام والتفاهم والتعاون المشترك ودعم العدل والسلام بين الشعوب والعمل على إيجاد طريقة أفضل للتعايش السلمي بين أفراد المجتمع في جميع أنحاء العالم، ومعالجة التحديات التي تواجه المجتمعات عن طريق الحوار البناء.
إلى أن يحين الافتتاح الرسمي للمركز في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، آمل أن تقام ورش عمل وندوات تحضيرية لترسيخ روح الحوار والتفاهم بين أتباع الأديان والثقافات داخل المملكة وخارجها. لا شك أن هناك من يعارض مثل هذا التقارب لأسباب تعنيهم. ومع احترامي لجميع الآراء، قد يكون من المفيد التأكيد على أن الحوار والتفاهم بين الأديان لا يعني بالضرورة احتواء المد الإسلامي أو تكفير المسلم - لا سمح الله، أو أن هذه اللقاءات تستغل في خدمة التنصير أو الردة. عندما منحت منظمة اليونسكو الملك عبد الله بن عبد العزيز ميدالية اليونسكو الذهبية، فهذا يمثل اعترافاً عالمياً بالجهود النبيلة في إشاعة روح التسامح والتعايش والحوار بين الفرقاء والخصوم والمجتمعات والأفراد، بمعنى آخر جاء التكريم ليؤكد رسالة الإسلام وليس لأن يحل محلها أو ينقص من قيمها السامية.
وللإعلام مسؤولية مهمة لترسيخ فكرة التقارب بين الأديان. أقرب مثال مشاركة كل من منى خزندار مديرة المعهد العربي في باريس والدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام في ندوة ''حوار الحضارات في مواجهة التحديات المعاصرة'' التي أقيمت الأسبوع الماضي ضمن فعاليات الأيام الثقافية السعودية في اليونسكو في باريس. أتمنى استمرار عقد مثل هذه اللقاءات للتأكيد على أهمية التعارف والتواصل بين الثقافات والشعوب واحترام بعضها بعضا عبر بناء حوار هادف بينها لتحقيق السلام في جميع أنحاء العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي