بل نحن المعوقون
لم أشاهد في حياتي ضحكة من القلب أجمل من تلك التي شاهدتها وسمعتها من نور الهدى. قبل الخوض في التفاصيل، لعلي أروي لكم كيف بدأت الحكاية.
قرأت خبراً عن إقامة معرض تشكيلي في أحد المجمعات التجارية الكبرى في الخبر للفتيات ذوات الاحتياجات الخاصة تحت عنوان ''برغم الإعاقة إبداعاتنا بلا حدود'' ينظمه فريق ''الشرقية تويت أب'' بالتعاون مع الجمعية السعودية للثقافة والفنون. ''الشرقية تويت أب'' فريق من فتيات وسيدات المنطقة الشرقية يعملن معاً من خلال موقع التواصل الاجتماعي ''تويتر''. يسعى الفريق لإيجاد التعاون بين المغردات واكتشاف مواهبهن وقدراتهن، وتوزيعهن في مجموعات حسب ميولهن للقيام بالأنشطة والأعمال التطوعية خارج بيئة هذا العصفور الأزرق كما يصفنه، يحلقن معا لتقديم فرص وأهداف إنسانية وتطوعية مشتركة. يا له من تحليق نبيل. الفريق المؤسس يتكون من هيلدا إسماعيل، ومنال العوفي، ونوف العبد الله، وفاطمة الهاشم، وشيخة المانع.
إلى هنا والخبر عادي جداً. أول ما صادفني عند دخولي المعرض أطفال في عمر الياسمين يلونون بشغف رسومات بريئة تعكس أحلامهم البيضاء وتشرف عليهم مجموعة من المتطوعات. وقفت منبهراً أمام مي الشريف، معلمة الاحتياجات الخاصة والمتطوعة في ركن رسم الرسالة. تهدف مي إلى دمج الأطفال الطبيعيين مع أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وتعريفهم على بعضهم. نساء بلدي فيهن من الخير الكثير.
المعرض ينقسم لعدة مقصورات أنيقة تزين جدرانها لوحات فنية تحكي قصة كفاح طويل ضد الإعاقة. ولعلي أسجل اعتراضي على هذه المفردة، فما شاهدته في المعرض هو إبداع بلا حدود.
أول قسم للفنانة إلهام آل طالب، هنا لوحة يكاد يخرج من إطارها رذاذ البحر الهائج. بجانبها لوحة هادئة لفاكهة الفراولة مع كأس وإبريق. أما اللوحة الثالثة فهي أغصان ياسمين ثائرة مبعثرة في إناء صغير جميل.
القسم الثاني للفنانة عالية القرني ويحتوي على رسومات للبيئة السعودية القديمة. هنا راعية غنم ترتدي قبعة القش ''العسيرية'' المشهورة، وهناك ملامح لبيوت أثرية. الآن فقط علمت لماذا تعشق عالية القرني التراث والطبيعة رغم مشكلة السمع والكلام. أحسست بتراب وسماء الوطن في لوحاتها، كما لم أشاهدها من قبل. فعلاً، الإصرار قد يكون عابر سبيل مؤقت المكان والوقت والهوية، لكن العزيمة صديق مقيم حميم ودائم. ما شاهدته في لوحات إلهام عزيمة قوية لا تيأس ولا تنحني.
من الصعوبة تقييم اللوحات لقصر فهمي في فن الريشة أولاً، ولدهشتي من دقة وتفاصيل كل لوحة رسمت بأنامل لا تعرف الإحباط. هنا القسم المخصص لوفاء البلوشي، فتاة في عمر الربيع تشرق جدران المعرض بابتسامتها العريضة وهي تتحدى ضعف حاسة السمع. طلبت مساعدة إحدى المتطوعات للاستفسار من وفاء عن رسوماتها، فجاءت منال العوفي وخلال ثوان كنا نناقش ونحلل اللوحات بسهولة ويسر. تتناغم مع رسومات وفاء خامات من القماش الخفيف تضيف رونقاً جذاباً لكل لوحة لتروي حكاية جميلة. ليس صحيحاً أن من أعراض صعوبة السمع أن تكون استجابة الشخص غير ثابتة، كانت وفاء تلتقط الأحرف حتى قبل أن تصلها لغة الإشارة وتجيب ببضع كلمات قصيرة خافتة تُغْنِي عن شرح طويل. ليس صحيحاً أن الأشخاص الذين يعانون صعوبة في السمع لديهم صعوبة في الإدراك والتعبير، فقد شعرت بعمق سعادة وفاء وهي تحكي قصص لوحاتها بشغف يتلاشى على ثغرِ صمت طويل. الفنانون لا يكذبون أبداً؛ هل يشك أحد أن بيتهوفن الذي عانى عوارض الصمم لم يكن صادقاً عندما كتب مقطوعته الشهيرة ''ضوء القمر'' وأهداها لحبيبته جولييتا جوشياردي؟
الفنانات المشاركات الأخريات في المعرض جئن من جمعية الإعاقة الحركية للكبار في الرياض، وهن أميرة المضحي ونجلاء العتيق. كذلك علمت لاحقاً أن فريق المتطوعات يضم أكثر من 50 فتاة تحدثت مع بعضهن مثل عبير هادي وسارة العمودي وسارة الغامدي وغيرهن.
أما منظمة المعرض فهي الفنانة والشاعرة المبدعة هيلدا إسماعيل. لم يتعرف على فن وثقافة المنطقة الشرقية من لا يعرف السيدة هيلدا إسماعيل. إن تصفحت أحرفها تقرأ قصائد مثل ''أبداً وليس لغيرتي حد''، و''أحياناً مبعثرة بالأحلام''، و''بعد منتصف القلب'' وغيرها. تقول هيلدا عن مشاركتها في تنظيم تلك الفعاليات: ''فخورة بما أنجزته هذه الأيدي، وإن كانت اللوحات تتحدث عن نفسها فهي أكبر دليل على أن لا شيء يمكن أن يعيق الإنسان سوى إرادته''. شاهدت هيلدا وهي تحوم أروقة المعرض بروح قيادية واضحة توزع تعليماتها بابتسامة بيضاء وترحب بضيوفها بلطف غمر جميع من حولها.
رغم التهميش غير المقبول من قبل الجهات الوزارية والتشريعية المعنية لهذه الفئة الحبيبة على قلوبنا، لم أسمع شكوى عن معاناة الفتيات. لكني أرفض أن يكون السكوت هنا علامة الرضا. كفانا بيرقراطية وبعثرة أوراق وتصريحات متلفزة هنا وهناك يتبعها صمت قاتم. أبناؤنا وبناتنا من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يحتاجون إلى هبات وحسنات، بل نريد أن يتم تسهيل ودعم دمجهم في المجتمع ومنحهم الإحساس بالإنسانية والحد الأدنى من الكرامة التي فقدوها في ظل تشريعات باهتة.
أما من سلبت ما تبقى من انبهاري بالمعرض فهي نور الهدى، فتاة لا تولد إلا في دواوين الشعر. رغم تعرضها في العاشرة من عمرها لتشوه في العمود الفقري ورغم إصرارها على عدم إخفاء يدها وهي تضخ الأوكسجين لرئتيها، لم تتوقف نور الهدى عن نثر ابتسامتها الساحرة كحمامة بيضاء مسالمة. فتاة في غاية الرقة والجمال، لم أشاهد ابتسامة مثل تلك حتى لأجمل جميلات الكون. وجدت في نور الهدى الإصرار والعزيمة؛ إصرارها يسانده طموح ثائر عنيد وعزيمتها تساندها إرادة قوية لا تعترف بتحديات الظروف.
سألت نور الهدى عن أمنيتها في الحياة، فقالت: ''أن أحقق السعادة لمن حولي''.