عهد جديد لهيئة الاستثمار

جلست يوم الخميس بحسب عادتي الأسبوعية أستعد لكتابة مقال الأسبوع في هذه الجريدة، وإذ بهاتفي الجوال يرن منبئا بوصول رسالة نصية. تناولته وفتحت الرسالة لأجد فيها خبر صدور عدد من القرارات الملكية بتعيين عدد من المسؤولين في مواقع قيادية في عدد من مؤسسات الدولة. سيطر على نفسي حينها شعور طاغ بالتفاؤل، خاصة عندما قرأت من بين الأسماء التي تضمنها الخبر اسم المهندس عبد اللطيف بن أحمد العثمان الذي تم تعيينه محافظا للهيئة العامة للاستثمار. هذا الرجل كنت قد التقيته أثناء تلك الزيارة التي استضافتني وعددا من كتاب الرأي فيها شركة أرامكو السعودية، فعرفته رجلا محملا بكنوز من المعرفة والمهارات والرؤية الثاقبة انعكست سجلا حافلا بالإنجازات والنجاحات التي شكلت لبنة مهمة في سجل نجاح وتميز هذه الشركة الرائدة. المهندس عباس بن أحمد هادي الذي تم تعيينه نائبا لوزير الإسكان هو أيضا أحد رجالات هذه الشركة، وهو ما يؤكد الدور الحيوي الذي تقوم به في منظومة التنمية الوطنية، إذ ها هي تمد مؤسسات الدولة بكفاءات بشرية مميزة ليسهموا في إدارة مؤسسات الدولة باقتدار، عبر نقل مفاهيم ومهارات العمل الاحترافي في هذه الشركة إلى القطاع الحكومي بما يمكن أن يسهم في تطويرها والارتقاء بمستويات الأداء فيها. وإذ أزف التهنئة خالصة لهذين الرجلين، وللدكتور خالد بن عبد القادر طاهر الذي تم تعيينه أمينا لمنطقة المدينة المنورة، فإنني أدعو الله العلي القدير لهم بالتوفيق والسداد، وأن يتمكنوا من تحقيق نجاحات يتطلع إليها الوطن في مؤسسات تحمل مسؤوليات جسام في منظومة التنمية الوطنية.
الهيئة العامة للاستثمار كانت على مدى السنوات الماضية محل نقد الكثيرين من الكتاب والمحللين، وأنا منهم، عطفا على المنهج الذي اتبعته، والآثار التي أوقعها هذا المنهج على واقع الاستثمار وقضايا التوظيف ودور الاستثمار الأجنبي في هيكل الاستثمار والاقتصاد الوطني. كل ذلك النقد لم يكن الغرض منه شخصنة القضية ولا الهجوم على أحد بعينه، بل كان غرضه الدفع لتحقيق النجاح المأمول لهذه الهيئة في الارتقاء بواقع وبيئة الاستثمار الوطني، وتفعيل دورها في معالجة قضايا هذا القطاع الحيوي بما يعود بالنفع على الوطن والمواطنين. إلا أن واقع الحال في تلك الحقبة أبرز حالة من التفرد بالرأي، وهي حالة عطلت أي إمكانية للاستفادة من الآراء المطروحة على ساحة الرأي. والهيئة وهي تبدأ عهدها الجديد تحت قيادة المهندس عبد اللطيف العثمان تواجه الكثير من التحديات والآمال التي تتطلب من هذا الرجل الاستماع إلى تلك الآراء وتمحيصها والاستفادة منها، إذ هو يواجه مهمة تصحيح الانحرافات التي شابت مسيرة الهيئة في العهد الفائت، وحالة التركيز على الأرقام كمؤشر على الإنجازات والنجاحات دون أن يكون لها أثر ملموس على أرض الواقع، وأيضا حالة التركيز على جانب الاستثمار الأجنبي واللهث الدؤوب وراء استقطابه عوضا عن التركيز على تحسين بيئة الاستثمار المحلية ومعالجة ما تواجهها من مشكلات وعقبات، بما يمكن أن يوفر بيئة جاذبة للاستثمارات المحلية منها والأجنبية.
أقول هنا لمحافظ الهيئة الجديد، هيئة الاستثمار يجب أن تكون راعية ومنظمة ومسؤولة عن كل جوانب الاستثمار، وهي مسؤولة أيضا عن تحقيق مكتسبات حقيقية تعود على الوطن والمواطنين بالنفع والرخاء. أول مهام الهيئة في عهدها الجديد يجب أن يكون تلمس وفهم وحصر العقبات التي تواجه بيئة الاستثمار في المملكة، والعمل على معالجتها وتذليلها أمام كل فئات المستثمرين وشرائحهم، ومد الجسور بين مؤسسات الدولة المختلفة ليسهموا جميعا في تحقيق رؤية وطنية لتنمية قطاع الاستثمار. بيئة الاستثمار المحلي يا معالي المحافظ تعاني الأمرين من سطوة بعض الجهات الحكومية وتعنتها تجاه المستثمرين المحليين، فيما هيئة الاستثمار أتاحت المجال للمستثمرين الأجانب ليرتعوا في أرض الوطن، إما بوعود زائفة عن استثمارات مليارية لم يتحقق منها إلا نزر يسير، وإما بمؤسسات خدمية وكيانات واهية ضعيفة كل ديدنها استنزاف مقدرات الوطن وموارده المالية وتهجيرها إلى الخارج، وليست مؤسسات المقاولات ومحال المطاعم والحلاقة وغيرها بعيدة عن رؤية الجميع على أرض الواقع. هيئة الاستثمار يا معالي المحافظ يجب أن تحرص كل الحرص على أن تسهم هذه الاستثمارات الأجنبية على توفير فرص عمل لأبناء الوطن، وهو ما ترفعت عنه في عهدها السابق بشكل أصاب الكثيرين بخيبة أمل خانقة. أذرع الدولة الاستثمارية سبقت الكيانات الخاصة في ضخ المليارات من الدولارات في استثمارات خارج حدود الوطن، بينما الهيئة تستقطب الاستثمارات الأجنبية إلى أرض الوطن، وهو لعمري تناقض مخل لا يمكن فهمه. والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ليست إلا مثالا على هذا الواقع، فهي تملك ما يزيد على 300 مليار ريال من الاستثمارات الأجنبية خارج المملكة، ومثلها كذلك المؤسسة العامة للتقاعد، وصندوق الاستثمارات العامة، ومؤسسة النقد العربي السعودي، وغيرها الكثير مما نعلمه ومما لا نعلمه. معالجة هذا الواقع المرير تتطلب معالجة واقع بيئة الاستثمار المحلي، والعمل على خلق فرص استثمار واعدة تجذب الاستثمارات المحلية منها والأجنبية، وتحقق لأبناء الوطن فرصا وظيفية بعيدا عن استجداء المعونة التي يقدمها برنامج حافز ووزارة العمل. قضية التستر الخفي والمعلن هي أيضا إحدى القضايا التي يجب على الهيئة أن تبادر إلى معالجتها معالجة جذرية، وليس قطاع محال التجزئة والخضار إلا نموذجا لهذا الواقع المخل في هذه الظاهرة.
خلاصة القول، هيئة الاستثمار دخلت اليوم عهدا جديدا ملؤه التفاؤل النابع من شخصية قائدها الجديد، وقادة الوطن وأبناؤه جميعا يترقبون بشغف ما سيقدمه لهم. أعلم أن المهمة صعبة، وأعلم أيضا أنه أحد أكفأ من يمكن لهم أن يضطلعوا بها باقتدار. وإذا كانت ثقة القيادة قد برزت هذه المرة في أحد أجمل صورها، فإنني أدعو الله العلي القدير لهذا الرجل بالتوفيق والسداد، عسى أن يتحقق على يديه الأمل المنوط بهذه المؤسسة الحيوية، والحلم الذي يراود خيال كل مواطن من أبناء هذا الوطن الحبيب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي