إثبات شهر رمضان بالحساب الفلكي إذا لم يُر الهلال

إثبات شهر رمضان بالحساب الفلكي إذا لم يُر الهلال

## إذا لم يُرَ هلال شهر رمضان فما العمل؟

وردت السنة النبوية بالإجابة عن ذلك، وقد تنوَّعت روايات الأحاديث كما يلي:
قال صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)، وفي رواية: (فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ)، وفي رواية: (فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ)، ورواية أخرى: (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ).

معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اقْدُرُوا لَهُ):
أهم مسألة يمكن الإشارة إليها في الحديث: المقصود بقول: (اقْدُرُوا لَهُ)؛ لاختلاف أهل العلم في تفسيرها إلى عدة أقوال:

## القول الأول:

المقصود بالتَّقدير: إكمال عِدة شهر شعبان أو رمضان، وذلك بجعل أيامهما ثلاثين يومًا، فيكون اليوم التالي تكملةً لشهر شعبان، فلا يُصام، واليوم الذي بعده الأول من رمضان، وقال بهذا جمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا.

واستدلوا على قولهم بعدَّة أدلة:

1 - ورد في رواياتٍ أخرى للحديث بيان أنَّ المقصود بالتَّقدير هنا معرفة مقدار الشيء ومبلغه، أي: أتِمُّوا عدد أيام شهر شعبان ثلاثين يومًا، ومن هذه الروايات:

أ - (فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ).

ب - (فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ).

بل قد وردت روايات توضِّح هذا اللفظ في الحديث نفسه، (فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ)، وفي رواية: (فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ).

2 - كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الصيام قبل تحقُّق دخول شهر رمضان بالرؤية أو إكمال عدد شهر شعبان ثلاثين يومًا، بقوله: (لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) رواه أبو داود والنسائي.

3 - جاءت أدلة تُبيِّن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية في هذه الحالة، ومن ذلك: قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ [أي يحتاط ويتكلَّف في ضبط وعدِّ أيام شهر شوال للمحافظة على صيام رمضان] مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ: عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَ) رواه أبو داود.

## القول الثاني:

المقصود بالتَّقدير: التضييق على الشهر، فيُجعل شهر شعبان تسعًا وعشرين يومًا، واليوم التالي هو الأول من رمضان، ويُقدَّر وجود الهلال تحت السحاب، بمعنى: أنَّ الهلال لو كان في السماءِ لكن لم نستطع رؤيته بسبب الغيم أو الغبار أو أي مانع آخر، فهنا يجب التضييق على شهر شوال، واعتبار أنَّ الهلال قد رُئي، وهي ما يُطلق عليه (الرؤية الحكمية).

ومعنى الحديث: الاحتياط بالصوم، على خلافٍ بينهم: هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟
أمَّا إذا كانت السماء صاحيةً ولم يُرَ الهلالُ فيُكره صيامه، وهو يوم الشك المنهي عنه.
وهو مذهب جمهور الحنابلة والمذهب عندهم.

واستدلوا على ذلك بأدلة منها:

1 - أنَّ التَّقدير في لغة العرب يأتي بمعنى التضييق، ومنه قوه تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق:7]، فيجب الصيرورة إلى اللغة العربية في فهمِ هذه الأحاديث.

2 - وردت عدة روايات عن عددٍ من الصحابة _رضي الله عنهم_ بوجوبِ صومِ يوم الشك إذا كان غائمًا، لكن:

أ - بعض هذه الآثار غير ثابتة.

ب - والثابت منها مُعارضٌ بأحاديث النهي عن صيامِ يومِ الشك، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ) متفق عليه، وكما هو معلوم من علم الأصول والمصطلح أنه لا يؤخذ بقول الصحابي إذا خالفَ نصًا شرعيًا.

ج - ثم إن هذه الآثار مُخالفةٌ كذلك لقولِ جمهور الصحابة _رضي الله عن الجميع_ في النهيِ عن صيامِ يومِ الشكِّ.

3 - قالوا : إذا لم يُمكن رؤية الهلال بسب مانعٍ من غيمٍ أو غبارٍ أو غيره، وكان الهلال موجودًا: فهذا يعني أنَّه يُمكن أن يُرى لو انقشع الغمام، وقد يمكن رؤيته إذا استطاع الناس تجاوز هذا المانع، سواءً بالمراصد الفلكية، التي أقرَّت الفتاوى الحديثة جواز الأخذ بها، أو أي آلات أو أدوات تُمكِّن من رؤية الهلال، كالمناطيد الجوية، أو الأقمار الصناعية، أو عن طريق الصعود إلى أماكن أعلى من السحاب، أو الابتعاد عن أماكن الغيم هذه إلى أماكن أكثر صحوًا.

فبواسطة هذه الآلات والأدوات نتمكن من رؤية الهلال، فعند ذلك يجب الصوم لوجود الهلال.

## القول الثالث:

المقصود بالتَّقدير حساب منازل القمر؛ لأنَّ التقديرَ يأتي بمعنى الحساب ومعرفة المقدار، فيكون معنى الحديث: احسبوا منازل القمر واعرفوا عددها لتعرفوا عدد أيام شهر شعبان، فإنه يدلكم على أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون.

وقيل إنَّ قوله: (اقدروا له) خطاب لمن خصه الله بهذا العلم.

أمَّا قوله: (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) فهذا لمن لا يُحسِن الحساب من عامة الناس.
فيتضمَّن هذا القول أمرين:

أ - تفسير التَّقدير في الحديث بالأخذ بالحساب، بمعنى: إتباع طريقة الحساب في إثبات دخول الأشهر وخروجها، فقد ينتج عن الحساب أن يكون عدد أيام شهر شعبان ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعةً وعشرين يومًا.

ب - الاقتصار في الأخذ بالحساب على من له علمٌ بهذا الأمر، أما من لم يكن له علمٌ بالحساب فيجعل شهر شعبان ثلاثين يوماً.

ونُسب هذا القول إلى مطرَّف بن الشّخّير من التّابعين، الذي يعتبر أنَّه إذا غُمَّ الهلال: رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس.

وأبي العبّاس بن سريجٍ من الشّافعيّة، ويقصِد بذلك: معرفةُ منازل القمر، وهي معرفة سير الأهلَّة، فهي تُدرَكُ بأمرٍ محسوس يُدركه من يُراقب النجوم. وقال به من عدد من المعاصرين.

واستدلوا على ذلك بقولهم:

أنَّ التَّقديرَ يأتي في اللغةِ العربيةِ بمعنى الحساب، ومعرفة مقدار الشيء، فينبغي تفسير الحديث بهذا المعنى.

ويُمكن الإجابة عن ذلك بما يلي:

أنَّ التَّقديرَ يأتي في اللغةِ العربيةِ على معانٍ عِدَّة، فتفسير الحديثِ بأحدِ هذه التفاسير يحتاجُ لدليلٍ، ولا دليلَ على ما ذهبوا إليه، بل قد جاء الدليلُ بالنَّصِّ على معنىً آخر كما سبق وهو إكمال عدد شهر شعبان ثلاثين يومًا.

الترجيح:

من خلال النظر في الأحاديث السابقة، وأقوال الفقهاء في شرحها يُلحظ أنَّ هناك مسألتين:

1 - تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (اقدروا له).

2 - حكم صيام اليوم الذي لا يُرى فيه الهلال بسبب الغيم.

## أولاً: تفسير لفظة (اقدروا له):

دَرَج الفقهاءُ منذ القِدَم على ترجيح قول الجمهور في تفسير كلمة (فاقدروا له) بأنَّ المراد بالقَدْر هنا: إكمال شهر شعبان، كما دلَّت عليه الأحاديث الأخرى من سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، وهو القول الأول، وهذا حق.

لكن: تفسير لفظة (اقدروا له) بأنَّها (حساب) لا مانع منها، لما يلي:

أ - لأنَّ معنى الحديث: إذا لم نرَ الهلالَ عملنا على أنَّ عدد أيام شهر شعبان ثلاثين يومًا، فلم نصم في اليوم التالي.

ب - معرفة عدد أيام الشهر تكون (بحسابها)، وقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تُفيدُ أنَّه كان (يحسب) أيام شهر شعبان، ومنها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ) رواه الترمذي. والمقصود بالإحصاء: عدُّ أيامِ شهر شعبان؛ لأجل المُحافظةِ والاحتياطِ لصيامِ شهر رمضان.

وعن عَائِشَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا_ قَالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ).

والمقصودُ بالتَّحفُّظ هنا: الاحتياط بضبط أيام شهر شعبان وعدِّها للمحافظة على صيام رمضان، ولا يكون ذلك إلا بالحساب.

كما جاء في عدد من تفسيرات أهل العلم استخدام لفظ (الحساب) عند شرح هذا الحديث، فمن ذلك:

1 - قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله (فاقدروا له): أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين) ثم رجَّح هذا التفسير.

2 - قال ابن القيم: "كان إذا حَالَ ليلةَ الثلاثينِ دون منظره غيمٌ أو سحابٌ أكمل عِدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ يومًا ثم صامه. ولم يكن يصومُ يومَ الإغمامِ ولا أمر به، بل أَمَرَ بأن تُكَمّلَ عدة شعبان ثلاثين إذا غُم، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله وهذا أمره، ولا يناقض هذا قوله: (فإنُ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) فإن الْقَدْرَ هو الحسابُ المُقَدَّر، والمرادُ به: الإكمالُ، كما قال: (فَأَكْمِلُوا الْعِدّةَ)، والمراد بالإكمالِ: إكمالُ عِدَّةَ الشَّهر الذي غُمَّ".

3 - وقال الشوكاني: "وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: (فاقدروا له) أي: قدِّروا أول الشهر، واحسبوا تمام الثلاثين) ورجَّح هذا التفسير.

4 - وجاء في الدرر السنية في الإجابة عن سؤال حول هذا الحديث:"معنى (اقدروا): احسبوا له قَدْرَه، وذلك بثلاثين يومًا، فهو من قَدْر الشيء، وهو مبلغ كميته، ليس من التضييق في شيء".

بينما جاءت معظم تفسيرات أهل العلم بعيدة عن استخدام لفظ (الحساب) في هذه المسألة، اجتنابًا للقول بإباحة الأخذ بالحساب الفلكي، وهذه مسألة أخرى.

وهذا لا يُغيِّر من الواقع شيئًا، إذ الأمر بتقدير عدد أيام شهر شعبان معناه: حساب أيامه، ودون هذا الحساب والتعداد لا يُمكن معرفة اليوم الثلاثين حتى يُلحق بشعبان.

## ثانيًا: حكم صيام اليوم التالي:

ذهب الفريق الأوَّل: إلى أنَّ الهلالَ إذا لم يُرَ فإنَّه لا يُصام في اليوم التالي؛ لتعلُّق الصوم بالرؤية.

بينما حاصل القولين الثاني والثالث: أنَّه إذا تأكدنا من وجود الهلال في السماء، لكن لم نستطع رؤيته لمانعٍ ما: فيجب صيامه؛ لوجود سبب الصيام، وهو وجود الهلال.
وبالنظر في الأمور التالية:

1 - إمكانية التأكد من وجود الهلال ورؤيته بالآلات والأدوات الحديثة كما أقرها أهل العلم، فتكون الرؤية قد تحقَّقت من خلال هذه الأدوات الحديثة.

2 - ما سبق بيانه أنَّ القمر هو لجميع الأرض، وأنَّ على جميع المسلمين والبلدان الصوم لرؤية أهل بلد للهلال، فإذا كان الهلالُ موجودًا ولم يُرَ الهلالُ في مكانٍ ما لسببٍ من الأسباب: فيمكن التأكُّد من وجودِه في بلدانٍ أخرى.

وقد أثبتَ الواقعُ المُشاهد أنَّه إذا أعلنت بلدٌ من البلدان عدم رؤية الهلال بسبب الغيم؛ فإنَّه يثبت رؤيته في بلدانٍ أخرى.

فيترجَّح الأخذ بالقول الثاني، وهو: أنَّه إذا لم يُرَ الهلال بسبب الغبار أو الغيم، لكن أمكنت رؤيته بالأدوات الحديثة أو في مناطق أخرى من الأرض: فيجب الأخذ بتلك الرؤية والصيام.
وقد يُرَدُّ على هذا الكلام بالقول:

إنَّ هذا مُخالفٌ لما كانَ عليه النبيُ صلى الله عليه وسلم من عدم الصيام، وإكمال شهر شوال ثلاثين يومًا.

ويُمكن الإجابة:

بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالعمل بما كان متوافرًا عندهم من علمٍ وآلات، فلما لم يمكنهم رؤية الهلال، والتأكد من بدء الشهر: وجب عليهم إتمام شهر شعبان، أما إذا أمكن التأكد من وجود الهلال: فتُعمل بقية النصوص الدالة على بدء الصوم لبدء الشهر.

وقد فسَّر الصحابةُ _رضي الله عنهم_ ذلك بفعلهم، فإذا تأكدوا من وجود الهلال في السماء أو غَلَبَ ذلك على ظنهم: صاموا، وإذا لم يروه أفطروا.
أما مسألة استقلال إثبات شهر رمضان بالحساب دون أي رؤية: فهذا مبحث آخر.

الأكثر قراءة