نامت عينه بعد أن سهرت لعقود في حماية الوطن
سيأبى التاريخ منذ السبت الماضي إلا أن يجعل للفقيد الأمير نايف بن عبد العزيز، سطراً ضمن كل صفحة سيدونها.. سطراً سيكون قائما بذاته ليكون موسوعة تحتوي على منهج العدل والمساواة كما نصت الشريعة الإسلامية على العمل به، كيف لا ونايف الأمن والأمان يتصدر توجيهاته التشديد على ضرورة المساواة بين كل أفراد الوطن، وبين كل أفراد الأمة الإسلامية حتى وأن اختلفت توجهات البعض منها أو انساقت خلف شعائر عقائدية لا يرضى الإسلام الحق بها.
عرف العالم أجمع صورة الراحل، فقيد الأمتين العربية والإسلامية، الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – وهو يعلن انتصار رجل الأمن السعودي على أتباع المارق جهيمان في الـ20 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 م، وهي الصورة لذلك الشخص نفسه التي عرفها العالم أيضاً، وهي تؤكد في كل محفل أن المواطن رجل الأمن الأول، في تأكيد جازم على منهجٍ أمني باتت أطروحته تستخدم في الكثير من بلدان العالم، خاصة تلك التي يتعلق منها بمجال محاربة الإرهاب.
لقد كانت الساعة الواحدة من ظهر السبت الماضي تحمل بين طياتها واحدة من أصعب اللحظات وأكثرها مأساوية، كيف لا وهي الساعة التي بثت فيها وكالة الأنباء السعودية بيان الديوان الملكي الذي ينعي فيه الرجل القوي في الأمن السعودي، وليسدل الستار على رجل مرحلة من مراحل التاريخ السعودي الحديث ببصمة لا تحتمل التزوير، وهي البصمة التي ستظل نهجاً يسار عليه "يد تصافح في السلم وأخرى تضرب من حديد من يحاول أن يجرؤ على أن يمس أمن الوطن والمواطن".
رحل نايف، ونامت عينه، بعد أن سهرت لعقود طويلة، تحمي الوطن وتؤمن له الاستقرار، والتي وصف المراقبون من مختلف دول العالم، قدرتها على كشف الإرهاب في منبعه، ورؤية تخطيط فلول مستبقة تنفيذه، لتحبطه قبل إلحاق الضرر بالإسلام والمسلمين وكل أتباع الأديان المختلفة.
رحل نايف، ونام قلبه، الذي كان له الدور الأبرز الذي تجلى في تعامله مع المواقف، والتي اتضحت حقيقة محتواها في مواقفه الإنسانية، كما تجلت في الكثير والكثير من المواقف التي أسهمت في توحيد مشاعر المواطنين في بلد بحجم قارة.
وكان الراحل نايف الإنسان، يرى وهو سليل بيت حكم وعلم وثقافة، أن المواطن السعودي عليه أن يسهم في حياكة نسيج التنمية لبلده، بلد الحرمين الشريفين وخادمة المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة وخادمة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين وزوار، ومنبع العروبة ومهد لغتها ومنطلق هجراتها الأولى، والساحة التي شهدت إرهاصاتها الحضارية وتختزن جذور ديوان شعرها.
إن كل تلك المعطيات وغيرها الكثير، والتي امتدت حتى الساعات الأخيرة قبل رحيله، تشكل إنسانية رجل رحل إلى ربه، بعد أن أرسى قواعد الأمن في بلاده، وعزز مواقف الخير والإنسانية فيها.. كيف لا وهو اتخذ من الإسلام قاعدة لهذا النسيج وأساسا ومرتكزا، قوامه العدل والسلام والرحمة للعالمين، إنها الرسالة التي تحترم التنوع وتعترف بالآخر، تجمع ولا تفرق، تساوي ولا تميز، تعدل ولا تظلم، تنبذ العنف والتطرف، وتكرم الإنسان وتحفظ حقوقه وتصون حرياته.
#2#
وهنا يقول لـ "الاقتصادية" اللواء متقاعد يوسف مطر، مدير شرطة منطقة مكة المكرمة الأسبق: "رحم الله فقيد الوطن.. رحم الله فقيد الأمة العربية .. رحم الله فقيد الأمة الإسلامية .. رحم الله رجلا رحل وسيظل العالم لعقود طويلة، يدرس مفاهيم واستراتيجيات أمنية وطّن الفقيد لقواعدها وأرسى مناهجها. كيف لا وهو نايف رجل الأمن الأول في السعودية، والذي إذا ذكر اسمه، اقترنت الأذهان بالأمن الوطني .. الأمن القومي.. ذلك الأمن الذي نام الوطن لعقود وهو ينعم به ويعيش تحت ظله".
وأشار مطر إلى أن الأمير نايف حتى وإن رحل إلى جوار ربه، فإن سيرته ستظل، وذكراه سيحفرها التاريخ بحروف من ذهب، والموسوعات ستدون الأنموذج الذي أسس له عن الأمن ومثالية الأمن وكيفية انضباط الأمن في المملكة، وكيفية مواجهته وتصديه للإرهاب وفلوله من أفراد الفئة الضالة".
وأفاد أن توجيهات الفقيد رغم ما تخلفه الأعمال الإرهابية من كوارث تتمثل في إزهاق الأرواح وإتلاف الممتلكات، كانت تشدد على ضرورة التعامل الإنساني والتمسك بمبدأ الحوار الفكري مع أفراد ذلك التيار الفكري المتشدد والمخالف للشريعة الإسلامية.
وأكد مطر، أن توجيهات الأمير نايف تشدد دوماً على ضرورة معالجة جميع الإرهاصات الفكرية من خلال الحوار الفكري السليم، القادر على إصلاح الأمر دون تدخل عنيف أو محاباة تضيع حق أصحاب الحقوق.
وأشار إلى أن الفقيد كان يوصي بمعرفة تفاصيل فكر أفراد الفئة الضالة، ومحاورتهم في معتقداتهم، ومواجهتهم بالأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، والتي تثبت خطأ توجههم وسيرهم، وهو ما جعل الكثير من بين أفراد تلك الفئة يتراجع عن فكره وخط سيره، ويسلم نفسه ليخضع لمناصحة بنيت أسسها على نهج قويم، أكد معرفة أسباب التحريض والمبدأ للفكر، لمعالجته من الجذور دون التمسك بالعروق.
وأوضح مدير شرطة منطقة مكة المكرمة السابق، أن الأمير نايف لم يوجه في يوم من الأيام بتقديم العقاب على النصح والإرشاد وبحث سبل العلاج ومساعدة من يضل من أفراد الوطن، بل إنه كان يحث ويؤكد إبعاد أبناء الوطن عن براثن العدوان ومكامن الجرم والجريمة، وتوضيح الموقف لهم من حساد هذا الوطن المعطاء، سواءً كانوا من داخل المملكة أو خارجها.
وبيّن أن الأمير نايف كان يبحث عن الأسباب ليس من أجل العقاب لأعداء الداخل والخارج، وإنما لنقض عللهم بالحجة والبرهان.
ويرى اللواء مطر، الذي عمل طوال خدمته في المجال العسكري، ومنذ أن كان برتبة ملازم، في مكة المكرمة، متنقلاً بين شرطة العاصمة المقدسة وشرطة الحرم وقوات الحج والمواسم، ومن ثم مديراً لشرطة منطقة مكة المكرمة، ومساعداً لقائد قوات أمن الحج، أن الفقيد كان هاجسه كيف يتم الحفاظ على أمن المسجد الحرام وضيوف الرحمن الذين كانت تأتي توجيهات مشددة بضرورة وأهمية الحفاظ على أمنهم واستقرارهم وتسهيل مهمتهم، وتأمين الأمن والاستقرار لهم حتى يؤدوا مناسكهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين غانمين، وكذلك يؤكد أهمية مساعدتهم والوقوف بجوارهم وعدم القسوة عليهم أو استخدام العنف، حتى وأن بدرت منهم بعض التصرفات التي تمليها أو توصي بها ثقافتهم أو ذلك التيار أو المذهب الديني الذي يسيرون على مبادئه.
اللواء مطر الذي قاد قوات أمن الحرم لستة أعوام، أكد أن الاحتكاك بضيوف الرحمن أو مضايقتهم خلال تأدية شعائرهم الدينية مهما تصرفوا فيما لم يخرج عن حدود المعقول، هو خط أحمر لا يمكن المساس به، مردفاً: "كان هناك قلة ممن يقدمون إلى المملكة يهتفون ببعض الشعارات الدينية التي قد يتضايق منها بعض أهل المذاهب الإسلامية الأخرى، وأنهم قد يتعمدون رفع بعض الشعارات التي تنفيها الشريعة الإسلامية ولم تقر بها، وهي ما كانت تقابل بتوجيهات الأمير نايف التي تدعو للتصدي لها دون إلحاق الضرر بمن بقوم بها أو المساس بمعتقداتهم وكرامتهم، وأن تتم مناصحة أفراد تلك الفئة والاستعانة بكبار السن منهم وشيوخهم والعقلاء منهم لتوعيتهم وإنهاء تلك الخلافات في موقعها ودون أن تصل إلى مراحل متقدمة قد تسيء لهم وللشعيرة التي وفدوا من أجلها.
وأردف مطر: "أدت السياسة الأمنية الناجحة بتوجيهات الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى تقويض الإرهابيين على جميع المستويات، إذ تم إجهاض عشرات العمليات الإرهابية بالضربات الاستباقية المبكرة التي اجتهد فيها الأمن السعودي بكفاءة عالية حازت تقدير القيادات الأمنية في العالم أجمع".
وأكد أن الحالة الأمنية سارت بشكل ممتاز في المشاعر المقدسة طوال العقود التي كان الأمير الفقيد هو الرجل الأول في الحج.
وتابع مطر: "للأمير نايف مواقف ومواقف سردها يطول، ولكن أستذكر هنا حين تم إحباط مخطط الفئة الضالة في موسم الحج قبل أربعة أعوام، إذ تم حينها إفشال مخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في بعض المواقع خارج مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، والذي كان يستهدف إرباك الأجهزة الأمنية وإفشال خطط الحج.
كانت توجيهات الفقيد تقضي بضرورة طمأنة ضيوف الرحمن وتأكيد أن أمنهم واستقرارهم مطلب أساسي للحكومة السعودية، وهو الأمر الذي تم تجاوزه بفضل الله دون أن يكون له تأثير مباشر في سلامة وأمن حجاج بيت الله الحرام أو المشاعر المقدسة.
وزاد مطر: "المتابع لفكر الأمير نايف ومنهجه يلحظ الوضوح والشفافية، ففي كل موسم حج نلحظ التغيير والتطوير الذي يكتسي به الحج عاما بعد آخر، فخلال العقود الثلاثة الماضية تحولت خدمة ضيوف الرحمن إلى صناعة احترافية في شتى المجالات، سواء على الصعيد الأمني أو الخدمي أو التنظيمي، بل حتى الفكري، حيث تجاوزت القطاعات الحكومية والأهلية مرحلة الارتجال والفردية في الخدمة، وتحول العمل إلى قالب مؤسساتي مقنن قائم على التخطيط والتنظيم والابتكار في تطويع كل الإمكانات البشرية والمادية والتقنية لخدمة ضيوف الرحمن لتمر مواسم الحج المتتالية خالية مما يعكر الصفو.
وهذا لم يكن ليتحقق لولا فضل الله ثم تلك العقول المفكرة والسواعد العاملة التي تقف وراء تلك النجاحات، فليس من السهولة بمكان إدارة كتل من الحشود البشرية في ظرفية زمان ومكان محدودة ، وتنوع ثقافات وعادات ولغات دون وقوع ما يعكر صفو ذلك التجمع مما خلق أشبه بمعجزة عصرية في هذا المؤتمر التعبدي العالمي".
انتقل الأمير نايف إلى جوار ربه وهو يؤكد في كل المحافل أن المملكة تقدم على مشروعها للتحديث من دون وجل أو تردد أو شكوك في كينونتها أو ضبابية في هويتها، وهو ما كان يقوله ويوصي به حتى آخر لحظات حياته، حيث لم يجعل من المواطن السعودي في مسيرته التنموية يواجه الأسئلة نفسها التي يواجهها أي مواطن في بلد آخر تواجه ثقافته ملامح عصر جديد ذابت فيه حدود التبادل التجاري وتدفق فيه سيل المعلومات من مراكز إنتاج وتصنيع وتصدير المعلومات وبات مفهوم الدولة القومية والسيادة الوطنية في حد ذاته محل تكييف وتنظير جديدين بل وأعلنت فيه نهاية التاريخ وانتهاء مسيرة التطور الإنساني في نموذج واحد هو النموذج الليبرالي الغربي، إذ كان يقول: "كل نظام يسن يجب ألا يكون معارضًا للإسلام فنحن دولة سنية سلفية نحافظ على ذلك بحكم قناعتنا الكاملة، لأننا مطيعون لما أمر به الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولن ننصر أبدًا إلا بالتمسك بالكتاب والسنة المطهرة.
وهناك مَن يحاول أن يشكك في ذلك، أو يبعد عنها بدعوى ما يسمونه التقدم.
والإسلام لا يعترض على أي شيء فيه تقدم للأمة بدليل اهتمام المملكة بالجامعات والابتعاث، ومختلف الأمور ذات العلاقة".