فهم جديد للمخ في معالجة أسرار التوازن لحركة الجسم
توصل اثنان من الباحثين، وهما كورنتين ماسو، وهو طالب في مرحلة ما بعد الدكتوراه في قسم الفزيولوجيا، وآدم شنايدر، وهو طالب في مرحلة الدكتوراه في قسم الفيزياء، إلى فهم جديد للكيفية التي يقوم بها الدماغ بمعالجة المعلومات الواردة من الأذن الداخلية. وهذا الفهم الجديد يعطي أملاً للأشخاص الذين يعانون مرض الدوار والترنح. والأشخاص الذين يعانون أعراض الاختلال الوظيفي الدهليزي، من قبيل الدوار والدوخة، تواجههم تحديات كثيرة. وكل من وقف على حافة جرف عال وشعر بالدوار فإنه يفهم هذه الصعوبات.
هناك أكثر من 70 مليون شخص في الولايات المتحدة يعانون هذه الحالة. والأشخاص المصابون بالفقدان الدهليزي يجدون صعوبة في ممارسة النشاطات اليومية الضرورية (مثل الأكل وارتداء الملابس والدخول في السرير والخروج منه، والتحرك في أنحاء المسكن والتحرك في الخارج)، لأن أي حركة، حتى حين يدير الواحد منهم رأسه ولو بحركة خفيفة، يمكن أن تجعلهم يشعرون بالدوار وتجعلهم يحسون أنهم معرضون لخطر السقوط.
ومن المعروف لدى الأطباء أن هناك نظاماً حسياً في الأذن الداخلية يعرف باسم النظام الدهليزي، يساعد الإنسان في المحافظة على توازنه من خلال إبقاء المجال البصري مستقراً أثناء الحركة. وقد اكتسب العلماء فهماً أساسياً للكيفية التي يعمل بها الدماغ على تشكيل إدراك الشخص لنفسه في حالة الحركة. لكن لم يتوصل أحد من قبل إلى أن يفهم أهم خطوة والتي من خلالها تقوم الخلايا العصبية في الدماغ باختيار المعلومات اللازمة لإبقاء الإنسان في حالة توازن.
ذلك أن تحليل المعلومات التي يستقبلها الدماغ ويأخذ بتفكيكها، بعد إرسالها عن طريق الأذن الداخلية، يتم بصورة معقدة. فالخلايا العصبية الحسية الدهليزية الطرفية في الأذن الداخلية تستوعب أثناء الحركة المثيرات الحسية من سرعات متغيرة ومن حالات التسارع التي يمر بها الجسم، والتي تأتي بسبب حركة الإنسان في العالم الخارجي (على سبيل المثال، حين يركب الشخص في سيارة فإنه ينتقل من وضع ساكن إلى حركة بسرعة 50 كيلو مترا في الساعة). وعن طريق هذه الخلايا العصبية ترسَل معلومات مفصلة حول هذه المثيرات الحسية (وهي معلومات تفيد في فهم كيفية تغير المثيرات مع الزمن)، على شكل نبضات عصبية.
وكان العلماء يعتقدون في السابق أن الدماغ يقوم بتحليل هذه المعلومات بصورة خطية، بحيث يحاول إعادة تركيب التسلسل الزمني لمثيرات التسارع والسرعة. لكن استطاع أستاذان في قسم الفزيولوجيا في جامعة ماكجيل في كندا، وهما كاثلين كالِن وموريس شاكرون، من خلال الجمع بين المنهج الفزيولوجي الكهربائي وبين المنهج الحاسوبي، استطاعا أن يثبتا أن الخلايا العصبية، في الأنوية الدهليزية في الدماغ، تقوم بتحليل المعلومات الواردة بصورة غير خطية أثناء استجابتها للتغيرات المفاجئة وغير المتوقعة في المثيرات الحسية.
في كل مرحلة من مراحل هذا المسار الحسي تتغير تمثيلاتنا وتصوراتنا في العالم الخارجي. على سبيل المثال، الخلايا العصبية الموجودة في النظام البصري القريب من حافة النظام الحسي (مثل الخلايا العُقَدية في الشبكية) تستجيب في العادة لأنواع كثيرة ومتنوعة من المثيرات الحسية (أو ما يعرف باسم الشفرة ''الكثيفة'')، على خلاف الخلايا العصبية المركزية (مثل اللحاء البصري الأساسي الموجود في خلفية الرأس)، والتي تستجيب في العادة بصورة أكثر انتقائية (أو الشفرة ''المبعثرة''). ويحدث الإرسال الانتقائي للمعلومات الدهليزية، وهو الأمر الذي استطاع توثيقه شاكرون وكالِن للمرة الأولى، بصورة مبكرة عند حدوث أول نبضة في الدماغ.
وقالت الدكتورة كالِن: ''استطعنا أن نبرهن على أن الدماغ يتمتع بهذه الخاصية الحاسوبية ذات التعقيد البالغ عند تمثيل التغيرات المفاجئة في الحركة من أجل توليد استجابات سريعة وصحيحة والمحافظة على التوازن. وأنا دائماً أستعمل صفة النظام الأنيق لأنه كذلك الفعل''.
وحيث إن هذا النوع من الاستجابة الانتقائية يعزز من إدراك الدماغ للتغيرات المفاجئة في وضع الجسم، فإنه مهم في حياتنا اليومية. على سبيل المثال، إذا اتخذتَ خطوة خاطئة عند منعطف لم تكن منتبهاً له فإن دماغك قادر، خلال أجزاء من الألف من الثانية، على استقبال وإجراء الحسابات المعقدة الضرورية واللازمة في مساعدتك على تعديل جسمك مع الوضع الجديد.
ويأمل الباحثون في أن ينطبق هذا الاكتشاف على الأنظمة الحسية الأخرى وأن يؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير معالجة أفضل للمرضى الذين يعانون من الدوار والدوخة وعدم التركيز أثناء الحركة في نشاطاتهم اليومية. كذلك ينطوي هذا الاكتشاف على إمكانية التوصل إلى علاجات من شأنها المساعدة في تخفيف الأعراض التي تصاحب دوار الحركة أو دوار الأماكن في البيئات الصعبة وغير العادية.