كنوز مدفونة في باطن «الشركة»

نضطر أحيانا إلى استقدام خبراء من الخارج برواتب ومزايا عالية، ونصبر على مرارة تجاربهم في حقولنا الإدارية، والنتيجة أن ''الخبير الأجنبي'' ربما لا يحقق المطلوب ويغادر البلد بعد أن ازداد دخلا وخبرة على حسابنا، بينما نكون قد فرطنا في ''كفاءات وطنية''، وسببنا لها الإحباط والكآبة، لأننا فشلنا في استخراجها من بواطن ''شركاتنا''، لعدم قدرة ''الإدارة'' على وضع آليات لرصد واكتشاف مثل هذه ''الكنوز القيمة''.
الشواهد كثيرة في هذا المجال، إذ يحكى أن إحدى الشركات الوطنية الكبرى قررت أن ترفع إنتاجها من مادة ''معينة''. وهذا يستلزم حصولها على تقنية جديدة تساعدها على زيادة الإنتاج، فقررت الشركة السعودية التباحث مع إحدى الشركات في اليابان لجلب التقنية المطلوبة، وتم الاتفاق على إرسال وفد ياباني إلى البلد لدراسة احتياجات الشركة السعودية، ومن ثم العودة إلى اليابان لتطوير التقنية بما يتوافق مع الاحتياجات المحلية.
أبلغت الشركة اليابانية نظيرتها السعودية بموعد قدوم الوفد لإجراء ترتيبات السفر والإقامة، فقامت إدارة الموارد البشرية بالبحث عن مترجمين عن طريق السفارة اليابانية في الرياض، التي بدورها زودتها بقائمة بالأسماء، وجرى الاتفاق مع ''مترجم'' يتولى عملية الترجمة ومرافقة الوفد طوال مدة بقائه (30 يوما)، واشترط أجرا عاليا (2500 دولار في اليوم)، ووافقت الشركة على مضض على دفع الأجر.
حضر اليابانيون بمعية المترجم، وكان في استقبالهم الرئيس التنفيذي للشركة وكبار المسؤولين، وطافوا على أقسام الشركة إلى أن وقفوا عند أحدها، حيث استقبلهم شاب سعودي يشرف على القسم، سرعان ما رحب بالزوار وبدأ يتحدث معهم .. بلغة ''يابانية'' طليقة!
وهنا التفت الرئيس التنفيذي إلى مدير الموارد البشرية، ونظر إليه نظرة لها معنى واحد، وما إن غادر الضيوف حتى استدعاه إلى مكتبه، وتساءل غاضبا: كيف يكون لدينا موظف سعودي يتحدث اليابانية وأنتم لا تعلمون؟ اكتشفت الشركة لاحقا أن هذا الموظف متزوج من فتاة يابانية، وكان مرافقا لوالده الذي يعمل في السفارة السعودية في اليابان، حيث درس هناك المرحلتين الثانوية والجامعة، وأتقن اللغة اليابانية تحدثا وقراءة وكتابة!
على العكس من ذلك نجد أن إحدى الشركات رفعت درجة الاستعداد حين أُبلغت أن أمير المنطقة سيزورها ضمن جولته على أبرز منشآت القطاع الخاص في المنطقة. قرر رئيس الشركة أن يقدم هدية للضيف في ختام زيارته – وفقا للبرتوكولات – وأراد أن تكون هذه الهدية مميزة وبعيدة عن الهدايا التقليدية (سيف أو مجسم خيل!). اقترح مدير الموارد البشرية أن تكون الهدية من أعمال إحدى موظفات الشركة - وهي مدخلة بيانات - لكنها تملك موهبة فائقة في الرسم على البورسلين. جرى مفاتحة الموظفة في الموضوع مع التأكيد على تحمل الشركة كل مصاريف العمل الفني مهما كانت، فوافقت على إنجاز المهمة بشرط أن تقدم الهدية بنفسها للضيف.
اشترت الموظفة قطعة من البورسلين لم تكلف كثيرا، وخطت بيدها بشكل جميل الآية الكريمة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا). وفي ختام الزيارة، نودي على الموظفة وقدمت الهدية في حضور الجميع، ما جعل رئيس الشركة يعبر لأمير المنطقة عن فخره واعتزازه بهذه الموظفة السعودية وأعمالها الفنية.
قصتان ماتعتان رواهما سامر كمال طاهر، الذي بدأ حياته موظفا بسيطا في شركة بيبسي كولا في أمريكا، ثم تنقل إداريا إلى أن استقر في الإمارات (دبي) مديرا عاما لإحدى شركات التدريب والاستشارات، كان يروي لنا ذلك ضمن الأمسية الأولى لـ''نادي الموارد البشرية السعودي''، الذي أسس بجهود مجموعة من زملاء المهنة على رأسهم إبراهيم بن عبد الله العريني الذي اعتدنا منه تقديم المبادرات من منطلق إحساسه بالمسؤولية الاجتماعية.
مثل هذه القصص توضح مدى نجاح الشركات أو فشلها في رصد واكتشاف الكفاءات أو الجدارات competencies، المتوافرة لديها، (إضافة إلى تكبدها خسائر يمكن تجنبها)، حيث تمثل ''الجدارة'' مجموعة من المعارف (الجوانب النظرية)، والمهارات (الجوانب العملية لتطبيق الجوانب النظرية)، والسلوكيات (التعاملات السلوكية لممارسة تلك المهارات) التي تلزم مجتمعة لأداء وظيفة معينة.
وتنقسم الجدارات إلى جدارات أساسية وجدارات إضافية. فالنوع الأول يجب أن يمتلكه جميع موظفي الشركة، يتحدد وفقا لطبيعة نشاطها، حيث تقوم بتدريب موظفيها على اكتسابها، وتقييم أدائهم على هذا الأساس، أما ''الجدارات الإضافية''، فيتم تحديدها لوظائف معينة.
لذا، إن أردنا تحقيق الأهداف الاستراتيجية للشركة، فيجب علينا تحويل هذه الأهداف (المكتوبة) إلى معايير للأداء ومجموعة جدارات يتم قياسها على أرض الواقع. حيث يمكن تصميم ما يعرف بـ''نموذج الجدارات'' الذي يبين الجدارات اللازمة لأداء كل وظيفة مع إيضاح مكونات كل جدارة.
وإذا تحددت هذه الجدارات، عن طريق إجراء مسح شامل لحصر المعارف والمهارات والسلوكيات التي يمتلكها الموظفون، يتم عندئذ توثيقها ضمن قاعدة بيانات تحدث دوريا. فـ''ملف الموظف'' لا يكشف دائما عن كل هذه الجوانب، لا بد لإدارة الموارد البشرية – إذا كانت تعمل من منطلق استراتيجي – أن تبني قاعدة بيانات تحتوى على مثل هذه المعلومات القيمة.
تخيل أن الرئيس التنفيذي في الشركة يريد أن يسند إدارة مشروع ما إلى ''مرشح'' لديه معرفة بـ''المشتريات'' ويجيد اللغة الفرنسية وقادر على التفاوض. قد يكون من المتعذر توفير مثل هذا المرشح، إذا كان عدد موظفي الشركة محدودا، لكن إذا كان عدد موظفي الشركة بالآلاف موزعين في مناطق جغرافية عدة، فهناك احتمالية إيجاد مثل هذا المرشح إذا توافرت ''قاعدة بيانات للجدارات''، وسيكون من السهل لإدارة الموارد البشرية أن ترفع بأسماء المرشحين وتفاصيلهم لتولي تلك المهمة.
تخيل أيضا.. لو أن عندنا ''قاعدة بيانات'' على مستوى القطاع العام، ألن يكون من السهل على متخذي القرار أن يبحثوا بطريقة منهجية عن مرشحين – من داخل القطاع نفسه - لشغل المناصب العليا في مؤسساتهم بدلا من الاستعانة بـ''النظريين''؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي