تساؤلات تنظيمية/ إدارية حول «هيئة النقل العام»

في عام 1996، نشرت مجلة ''اليمامة'' حوارا صحافيا مع وكيل وزارة المواصلات لشؤون النقل المهندس أحمد التركي، حيث تناول الحوار مجموعة من المشكلات الخاصة بقطاع النقل.
ورغم مرور 16 عاما على الحوار الذي أجريته مع المسؤول الحكومي، إلا أن القطاع لا يزال يعاني المشكلات نفسها التي نشهدها اليوم: فوضوية سيارات الأجرة العامة (الليموزينات)، ومشكلة سعودة قطاع النقل البري، وخط البلدة، والنقل المدرسي ونقل المعلمات، وتجمع أصحاب السيارات الخاصة أمام صالات المطارات، وتأجير السيارات.
كل تلك المشكلات ''الأزلية'' لا تزال قائمة تكدر حياتنا وتنغص علينا مشاويرنا اليومية، دون أن تجد من يتدخل لحلها، فكل جهة ترمي مسؤولية الحل على جهة أخرى.
للأمانة، شيئان قد تغيرا: الأول، تغيير اسم الوزارة من ''المواصلات'' إلى ''النقل''، والآخر، حل مشكلة ''تأجير السيارات'' مع تقديم شركة العلم لأمن المعلومات لخدمة ''تم''.

شهادة ميلاد لجهاز ''بيروقراطي'' جديد
الأسبوع الماضي، أقر مجلس الوزراء إنشاء هيئة جديدة تسمى ''هيئة النقل العام''، تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ويشرف عليها رئيس بالمرتبة الممتازة، يرتبط بوزير النقل، الذي سيترأس مجلس إدارة الهيئة.
وتهدف الهيئة المتخذة من الرياض مقرا لها إلى تنظيم خدمات النقل العام للركاب داخل المدن وبينها والإشراف عليه وتوفيره بالمستوى الجيد والتكلفة الملائمة وتشجيع الاستثمار فيه بما يتفق مع أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المملكة.
الهيئة ستنضم إلى شقيقاتها، إذ إن هناك عدة جهات حكومية معنية بالنقل في السعودية، هي: وزارة النقل، والمؤسسة العامة للموانئ، والمؤسسة العامة للخطوط الحديدية، والهيئة العامة للطيران المدني، وكلها تتبع للوزارة باستثناء الهيئة الأخيرة. وفوق ذلك هناك كيانان من الكيانات الخاصة تملكهما الحكومة، هما: المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية، والشركة السعودية للخطوط الحديدية (وأرجو ألا أكون قد أغفلت جهة أخرى معنية بالنقل).
لذلك، أتحفظ كثيرا – بحكم التخصص - على إنشاء أجهزة حكومية جديدة، مفضلا على ذلك إعادة هيكلة بعض الأجهزة الحكومية من خلال مبادرات الدمج وتنظيم الاختصاصات، إلا أنني سأبدي نوعا من ''التفاؤل الحذر'' – على نمط الهدوء الحذر الذي نسمعه في نشرات الأخبار- تجاه هذه الهيئة الوليدة، وسأطرح عددا من التساؤلات لعلها تساعدنا على تحديد هويتها وتسهم في معالجة المشكلات ''الأزلية'' لقطاع النقل.

كيف ستنظم الهيئة قطاع النقل العام؟
حسب قرار مجلس الوزراء، ستتولى الهيئة الناشئة تنفيذ عدد من المهام، منها: تنفيذ خطط النقل العام على مستوى المملكة والتأكد من توافر التمويل لأنشطة النقل العام من مصادره المختلفة وتحديد شبكة خطوط النقل العام ومساراتها ومواقع مرافقها ووضع مواصفات وسائط النقل العام ومنح التراخيص والتصاريح واقتراح آلية لتنظيم أجور النقل العام وتوفير الظروف الملائمة لجذب الاستثمارات في هذا المجال.
ومع ذلك، تظل هناك تساؤلات حول الأدوار الأخرى التي تتولاها الهيئة في قطاع النقل العام: كيف سيكون دورها في فك الاختناقات المرورية؟ وكيف ستقضي على عشوائية السوق؟ وكيف ستنظم عملية النقل في مكة والمدينة؟ وما دورها في النقل المدرسي ونقل المعلمات؟ فكل من هب ودب يمكنه أن يقود حافلة ويتولى نقل الطلاب أو المعلمات دون ترخيص أو مراعاة لأدنى متطلبات السلامة. هل سيكون للمرأة دور – إذا سمح لها بالسواقة – في الإسهام بتشغيل قطاع النقل؟ وهل يمكن للمرأة يوما ما أن تسوق حافلات نقل المعلمات أو الطالبات؟
لقد قامت وزارة التربية والتعليم - مع أجواء انعقاد ''المؤتمر الدولي الأول للنقل المدرسي'' - بإبرام عقد إسناد تشغيل خدمات النقل المدرسي مع شركة ''تطوير خدمات النقل التعليمي'' لتوسيع نطاق المستفيدين من الخدمات من 600 ألف طالب وطالبة حالياً في مختلف أرجاء السعودية إلى نحو 2.7 مليون طالب وطالبة بحلول عام 2020. كما تنوي الشركة (الحكومية) نقل 48 ألف معلمة، يتعرضن يوميا لمخاطر الطريق، و472 ألف طالبة في التعليم العالي، و24 ألف طالب وطالبة من ذوي الاحتياجات الخاصة، و80 ألف طفل في رياض الأطفال.
لذلك، نتساءل كيف ستمارس الهيئة تلك الأدوار، خاصة المتعلقة بالنقل المدرسي ونقل المعلمات؟ كيف ستكون طبيعة العلاقة بينها وبين وزارة التربية والتعليم تفاديا لتداخل الاختصاصات؟
متى يرفع الحظر عن الاستثمار الأجنبي في مجال النقل البري؟
هناك 13 نشاطا استثماريا مستثنى من الاستثمار الأجنبي، من ضمنها خدمات النقل البري عدا نقل الركاب داخل المدن بواسطة القطارات. وإذا أخذنا في الاعتبار كبر مساحة البلد، وتدني خدمات النقل العام، فإن هناك فرصة سانحة أن تتعاون هيئة النقل العام مع الهيئة العامة للاستثمار لفتح المجال أمام المستثمرين الأجانب للاستثمار في مجال النقل البري، فهذا سيكون من المجالات التي تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد الوطني وتسهم في توطين الوظائف وتنشيط السياحة الداخلية.

هل يمكن نقل جهاز ''المرور'' إلى هيئة النقل العام؟
في الحوار الذي نشر قبل 16 عاما، اعترف المسؤول الحكومي بأن وزارته تعاني ضعفا في ''المتابعة الميدانية''. الحال لم يتغير، وقد تكون وزارة النقل من الوزارات القليلة التي لا تمتلك طاقما ينزل إلى الميدان لرصد المخالفات المتعلقة بمجال النقل، وهذا ما يفسر لنا الفوضى في عمل وسائل النقل.
لذا، فإن إنشاء هيئة للنقل العام وتركها وحيدة بلا أذرعة أو جنود يعملون في الميدان سينذر بموتها في المهد. لهذا، نقترح من باب التنظيم فكرة نقل اختصاص ''الإدارة العامة للمرور'' من الأمن العام (وزارة الداخلية) إلى هيئة النقل العام، على أن تسعى الهيئة إلى مواصلة تطوير ''المرور''، وتستفيد من مرونتها الإدارية والمالية في توظيف شباب من حملة المؤهلات الجامعية، قادرين على التعامل مع الجمهور، ويتمتعون بالوعي العالي تجاه السلامة، ما يمكنهم من ضبط الفوضى المرورية.
وإذا كان برنامج ''ساهر'' قد نجح في تغيير السلوك المروري المتعلق بالسرعة وتجاوز الإشارة الحمراء، فإن هناك عشرات المشاهد التي نراها يوميا وتعكس الفوضى والاستهتار المروري، بل انعدام الوعي بالسلامة المرورية (ومنها، الانعطاف الحاد من مسار إلى آخر، وعدم الالتزام بمبدأ أولوية الطريق، والوقوف غير النظامي.. إلخ)، وتحتاج إلى مبادرات للتغيير.

أخيرا..
مع تفاؤلي الحذر، أتمنى أن تكون الهيئة الجديدة عاملا من عوامل ''التغيير والتنمية'' في قطاع النقل العام والسلوك المروري، لدرجة تجعلنا نستمتع بمشاويرنا بدلا من الشعور بنوبات التوتر والهيجان كلما قررنا النزول إلى الشارع!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي