آلية لتعويض المتضررين من الأعمال الإجرامية
ظهرت فكرة تعويض الدولة مواطنيها عن أضرار الأعمال الإجرامية التي يرتكبها بعض الأفراد دون أن تتمكن الدولة من تقديمهم للعدالة منذ العصور القديمة، فقد عرف قانون حمورابي الشهير هذا المبدأ، الذي جاء فيه أنه في حالة ارتكاب السرقة وعدم معرفة السارق يلتزم الحاكم الذي ارتُكِبت السرقة في مقاطعته بتقديم التعويض إلى المجني عليه عمّا سُرق منه من مال، كما يُلزم الحاكم بأن يدفع لورثة المجني عليه في القتل تعويضا عادلا (ميناً كاملا من الفضة) عندما لا يُعرف القاتل. كما أن الشريعة الإسلامية أرست قواعد العدالة والمساواة وجبر الضرر والغنم بالغرم والضمان ولا ضرر ولا ضرار، فعلى سبيل المثال فرضت الدية عن قتل الخطأ من بيت المال إذا كان الجاني مجهولاً أو معسراً. وفي العصر الحديث تطورت فكرة التعويض وتبلورت معالمها وظهرت معايير وآليات واضحة ومنصفة لتقدير حجم الأضرار وتعويض المتضررين، وتم تبنيها وتقنينها في العديد من قوانين وأنظمة دول العالم. وأكد النظام الأساسي للحكم في المملكة على أن تدعم الدولة نظام الضمان الاجتماعي والتكافل فيما بين أفراد المجتمع، كما قرر أن تختص السلطة التنظيمية بوضع الأنظمة واللوائح، فيما يُحقق المصلحة، أو يرفع المفسدة في شؤون الدولة، وفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية.
وبإلقاء نظرة سريعة على واقع التعويض في المملكة عن الأعمال الإجرامية التي يرتكبها بعض الأفراد دون أن تتمكن الدولة من تعويض المتضررين جراء القيام بتلك الأعمال الإجرامية، فإننا نشهد ونسمع كثيرا عن السرقات والتعديات التي تقيد ضد مجهول وفي حالات أخرى تتم معرفة الجاني، لكنه يعجز عن إعادة ما سرقه أو إصلاح ما أتلفه، ولا يكون للمواطن الضحية نصيب سوى الحسرة والقبول بالأمر الواقع فلا تعويض ولا جبر. وكذلك الأمر بالنسبة للأعمال الإرهابية التي غالبا ما تنجم عنها أضرار كبيرة مادية ومعنوية. وأحسنت الدولة عندما وضعت آلية تعويض عادلة لموظفيها وذويهم نتيجة للأعمال الإرهابية، إلا أن بقية المواطنين الذين قد يصيبهم الضرر من جراء تلك الأعمال لا تشملهم تلك الآلية، وليس لهم ولذويهم سوى الصبر والتحسب على الإرهابيين، خصوصا أن شركات التأمين عادة ما تستثني الأضرار الناجمة عن الإرهاب من التأمين.
وهذه المعاناة لن تنتهي ما لم تقم السلطة التنظيمية في المملكة بواجبها المنصوص عليه في النظام الأساسي للحكم والمسؤولية الموكلة إليها الخاصة بوضع الأنظمة واللوائح، فيما يُحقق المصلحة أو يرفع المفسدة في شأن جبر ضرر المواطنين، وتسارع في سن نظام للتعويض بصفة عامة، سواء عن الأعمال الإجرامية أم عن المسؤولية العقدية والتقصيرية، يتخلى أولا عن النظرة الفقهية الضيقة التي تحصر التعويض عن الضرر المالي المحسوس الواقع فعلا ويقبل النظرة الفقهية الواسعة التي تتبنى قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة التعويض عن الألم عند بعض الفقهاء المسلمين، ويتضمن ثانياً معايير وآليات منصفة لتقدير حجم الأضرار والتعويض عن أنواع الضرر كافة التي تصيب المتضررين، بما يتناسب مع ما أصابهم من أضرار مادية وغير مادية، وأن يطبق ذلك النظام بوساطة القضاء ولا يترك لاجتهادات لجان أو أشخاص. كما أن هناك حاجة فيما يخص الأعمال الإرهابية بأن يدرس إنشاء صندوق وطني لتعويض المتضررين جراء تلك الأعمال تشارك فيه الدولة من خلال ما تخصصه من أموال، وكذلك يشارك في تمويله المواطنون من خلال ما يخصصونه من مساهمات وأوقاف وتبرعات، وذلك على غرار ما هو موجود في عدد من دول العالم المعاصر ومن بينها بعض دول الخليج العربية.
ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن هناك عدداً من الرسائل والبحوث العلمية التي تناولت موضوع التعويض في المملكة ومنها أطروحة الدكتوراه للدكتور عبد العزيز بن محمد المتيهي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي أكد فيها أهمية هذا الموضوع وقدّر ازدياد الحاجة إليه في الوقت الحاضر بعد أن أصبح إحدى السمات البارزة للحياة المعاصرة، حتى لم تعد تخلو من طلب التعويض دعوى، سواءٌ أكانت مدنية، أو تجارية، أو إدارية، أو جزائية، وقدم خلال هذه الرسالة المهمة تأصيلاً لمختلف جوانب هذا الموضوع، وبيان أهم المباحث النظرية المتعلقة به، وكذلك أطروحات متميزة للدكتور عبد اللطيف القرني والشيخ محمد الجذلاني عن التعويض، وأرى أنه من المهم الاستفادة من هذه الدراسات في صياغة نظام للتعويض في المملكة.