التعليقاتُ الجَارحة

أحسبُ أن الصحافة بشقها الالكتروني قد أوجدت للقراء والمُتصفحين ميزة تفاعلية فريدة، حين قامت بإدراج منطقة أسفل المادة المنشورة تسمي «منطقة التعليق»، فيها يُدلي القارئ أو المُتصفح برأيه، نقداً، أو إضافة، أو تصحيحاً.. الخ، وهو أمر أفسح المجال لتزاوج الأفكار وتلاقح الرؤى، وخَلْقِ أطر مشتركة للفهم والتحليل والاستنتاج، وفي مراحل متقدمة يُقيم علاقات وصدقات فكرية وثقافية مُتميزة للغاية.

في الموقع الالكتروني لصحيفة الاقتصادية كمثال، مُنِحَ القرّاء الأفاضل ميزة التعليق على المواد المنشورة في الموقع دون الالتزام المُسبق بوجود حساب شخصي، يجب على المستخدم تسجيل الدخول من خلاله إلى الصحيفة لإبداء التعليق المناسب، وهو ما أعتبره سَعْيٌ من جانب إدارة الموقعً نحو تنمية المسؤولية عن الكلمة أمام الله ثم الناس، دون رقيب إلا من الله على ما يَخُطُّه القلم، كذا ما يريد أن ينقله الموقع لمحبيه من ترسيخ لمناخ حرية إبداء الرأي دون إشعارهم بشيء من التقيُّد وهم يتجولون فيه قراءة وبحثاً.

في الحقيقة، أساء عدد غير قليل استعمال هذه الميزة العصرية، عبر استخدام أسماء وهمية وعناوين بريد الكترونية غير صحيحة ليتمكنوا من التطاول على الموقع أو الناشر أو الكاتب دون أن يتمكن أحدٌ من التعرف على هوية من أساء ومن تطاول إلا بإتباع طرق الكترونية معقدة ومُكلِّفة، لتتحول الميزة إلى غطاء يواري وجوه بعض الثعالب الماكرة التي تكره المواجهة وتهوى العقر من وراء حجاب.. صحيح أن هنالك من يراجع محتوى التعليقات، ولكن مع الزحام الشديد تمر كلمات سيئة ورديئة وجارحة، يُستدرك الأمر بحذفها ولكن بعد عرضها، وهناك كلمات لا تُحذف لأنها لم تُقرأ أو لم يَعترض عليها أحد.

أحبُّ أن أقول، إنّ إلزام القرّاء بحساب يحمل اسماً صريحاً وكاملاً، وبريد الكترونياً صحيحاً صالحاً للمراسلة، ورقماً سليماً لنقال أو هاتف، مع ضرورة المراجعة الدقيقة لمادة التعليقات.. أضحى كل ذلك مطلباً لضبط إيقاع منطقة التعليق على محور التفاعل المثمر والحوار المحترم، بعيداً عن عبارات الإقصاء والإساءة، وذلك احتراماً لمشاعر قراء مُتحضرين تؤذيهم تلك الألفاظ الخادشة، وتقديراً لكُتَّاب مُحترمين يتعبون من أجل إنتاج كلمة مفيدة، لا يبتغون بها مدحاً ولا ثناءً، بقدر ما يتمنون رؤية ملاحظات كاشفة لبعض ثقوب فكرية أو لغوية، أو لفتات توضيحية لبعض نقاط غفلوا عن تبيانها بالشكل الملائم في المادة المطروحة، أو نقداً موضوعياً وتشريحياً لفكرة المادة، بما ينشئ جواً فكرياً وثقافياً ممتعاً لكافة الأطراف.

أدركُ أن كثيراً من المواقع الالكترونية لا تريد تقييد روادها بحساب وتسجيل، ظناً بأن عدد قراء الموقع سينحسر في ظل منافسة حامية بينها على الفوز بأكبر عدد من القراء والمتصفحين في ظل اعتبارات مادية وأدبية تسعي المواقع إلى تحقيقها، وربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن هناك شيء يسمى هيبة الموقع وسمعته ونوعية متصفحيه ومستوياتهم الفكرية والثقافية، وهو محدد هام لا يقل أهمية في نظر مواقع تسعى نحو بناء سقف مرموق من الثقة مع جمهور القراء، وهو أمر يتطلب وقتاً وجهداً للحصول على الرقعة المناسبة من التصفح، بيد أنه الطريق السليم نحو التأصيل لمعلوماتية راقية وهادفة.. كما أرى.

وتبقى همسة لإخواني القراء.. إنّ التعبير عن الغيرة، تجاه كاتب ما في صحيفة ما، لا يكون بتناول شخصه أو جنسه أو تأويل مادة مقاله على نحو أعوج وأهوج، أو شكايته لدي إدارة الموقع أو الصحيفة بما ليس فيه كيداً وظلماً، فعندئذ تتحول الغيرة إلى نار تكوي صاحبها، بدلاً من أنْ تتحول إلى قوة إيجابية دافعة له نحو الندية والمنازلة الشريفة، بمقارعة الكلمة بالكلمة، والفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، والموضوع بالموضوع، لتكون غبطة تخلق ثراء وتنوعاً واختلافاً محترماً راقياً.

فلا تدع الشيطان والنفس الأمارة بالسوء يقودانك إلى منطقة تجريح من لم يقدم إليك إساءة، لأن الملكين يكتبان وأنت تنسى وكتاب ربي لا يضل ولا ينسى.

وما من كاتب إلا سيـفنى *** ويُبقي الدهـر ما كتبت يداه
فلا تكتب بيدك غير شيء *** يسرك يوم القيامة أن تراه

يبقى الأمل قائماً في أن نؤدي شكر النعم بحسن استعمالها وتصريفها في أغراضها، والتكنولوجيا نعمة قربت البعيد، وقصرت المسافات، وجعلت العالم بأسره كقاعة اجتماعات نتداول في الرأي والمشورة والنصيحة، فهلا برزت قامتنا كأروع المُتحدثين وأنبغ الناقدين وأذكى المحاورين، لنستحق مقعداً دائماً في هذا المنتدى الكبير؟!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي