مستقبل الأجيال بين ادخار النفط واستخراجه

تتباين السياسات النفطية بين الدول المنتجة للنفط بتباين التزاماتها المالية القائمة وتطلعاتها التنموية القادمة. فهناك دول تنتهج أسلوب المحافظة على مخزونها النفطي في جوف الأرض واستخراج اليسير منه بما يمكنها من الوفاء بالتزاماتها المالية القائمة، مع ترك هموم تشييد بنيتها التحتية لتقررها أجيالها القادمة. الدافع هنا إيمانها باستدامة النفط كمحرك رئيس للاقتصاد العالمي وأن لكل جيل معايير واحتياجات من البنى التحتية تختلف عن الجيل الآخر. وهناك دول أخرى تذهب إلى عكس ذلك من خلال استثمار مخزونها النفطي باستخراج ما يفوق احتياجاتها الحالية وتوجيه الفائض نحو تشييد بنيتها التحتية لاستخدام الأجيال القادمة وتنويع قاعدة مواردها الاقتصادية. الدافع هنا إيمانها بحتمية ظهور بدائل للنفط كمحرك رئيس للاقتصاد العالمي وأهمية توفير أسباب النمو للأجيال القادمة بما يمكن هذه الأجيال من استدامة التنمية فوق هذه البنى التحتية المشيدة مسبقاً.
ولكل سياسة من المبررات والدوافع والإيجابيات والسلبيات من الثقل النوعي والكمي ما للسياسة الأخرى من المبررات والدوافع والإيجابيات والسلبيات، ما يجعل صانع قرار السياسة النفطية أمام تحدي اتخاذ قرار مصيري يضع أجيال دولته في أحضان الرفاهية الاقتصادية أو على حدود الفقر المدقع. وحاولت دراسة الإجابة عن تساؤلات تدور حول أي السياستين أفضل لمستقبل الأجيال القادمة. صدرت الدراسة الشهر الماضي ضمن دوريات صندوق النقد الدولي، بعنوان ''الإنتاج المناسب للنفط والطلب العالمي على النفط''. هدفت الدراسة إلى تحديد السياسة النفطية الأنسب حسب حجم الاحتياطي النفطي لكل دولة ومستوى التحفظات المأخوذ بها حول مكانة النفط المستقبلية كمحرك رئيس للاقتصاد العالمي. اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات 23 دولة نفطية ذات العلاقة بحجم الإنتاج والمخزون وأسعار النفط في الأسواق العالمية. توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج التي من أهمها تقدم سياسة الإسهاب في استخراج النفط وتوظيف الفائض لتنويع الموارد الاقتصادية عوضاً عن الاحتفاظ به في جوف الأرض واستخراج قدر الحاجة الحالية فقط.
وهنا نفتح المجال في جهود المملكة في جانب تنويع الموارد الاقتصادية من خلال قناة تكرير النفط الخام ومحاولة تعظيم قيمة المنتجات النفطية بتكريرها واستهداف أسواق المشتقات النفطية المختلفة. تلك الجهود التي تنطلق من منهجية السياسة النفطية السعودية في الموازنة بين إيجابيات وسلبيات كل سياسة نفطية بعين الحاضر والمستقبل والجهود على أرض الواقع الهادفة إلى تنويع قاعدة موارد المملكة الاقتصادية من خلال التوسع في عمليات تكرير النفط وبيعه في الأسواق العالمية على حساب شقيقه من الإنتاج الخام.
فعملية تكرير النفط تتكون من مرحلتين رئيستين هما التسخين والتبريد. يتم في بداية الأمر تسخين النفط الخام إلى درجات غليان مختلفة بهدف تحويله من مزيج سائل كثيف إلى مجموعة من الغازات المختلفة. ويحتوي كل غاز على نسبة كربون مختلفة عن الغاز الآخر. ويشكل كل غاز المادة الأولية لإنتاج مادة نفطية معينة. ويتم بعد ذلك تبريد كل غاز على حدة إلى درجات حرارة منخفضة بهدف تحويله من غاز متطاير إلى مادة سائلة. وتشكل كل مادة سائلة نوعا واحدا من أنواع المنتجات النفطية. تتباين بطبيعة الحال تكلفة إنتاج كل منتج نفطي بتباين تعقيد مرحلتي التسخين والتبريد أعلاه التي مر بها هذا المنتج. حيث تراوح تكلفة التكرير بين منخفضة، كما هو الحال في ''الأسفلت''، ومرتفعة، كما هو الحال في ''الميثان''. وتتباين تباعاً ربحية إنتاج هذه المواد النفطية بتباين أسعار بيعها في الأسواق، المرتكزة بطبيعة الحال على تكلفة الإنتاج.
توجد في المملكة مجموعة من مصافي تكرير النفط المتباينة طاقاتها الإنتاجية من مرتفعة إلى متوسطة. تشير مجلة النفط والغاز إلى أن مصفاة رأس تنورة المصفاة السعودية الأكبر بطاقة إنتاجية يومية تفوق 500 ألف برميل. ثم مصافي ينبع الأربع الكبرى والجبيل بطاقة إنتاجية يومية تقارب 400 ألف برميل لكل مصفاة. ثم بعد ذلك مصافي كل من ينبع والرياض وجدة بطاقة إنتاجية يومية تقارب 230 و120 و100 ألف برميل، على التوالي. تنتج المصافي السعودية أنواعا مختلفة من المواد النفطية. يعد ''زيت التشحيم'' و''الكيروسين'' أكثر المواد إنتاجا في المصافي السعودية. تشير إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية إلى أن إنتاج المصافي السعودية من ''زيت التشحيم'' و''الكيروسين'' يقارب 500 ألف برميل يومياً لكل منهما. تشكل هذه الكمية قرابة 4.25 في المائة لكل منهما من الإنتاج العالمي اليومي ''لزيت التشحيم'' و''الكيروسين''. ثم يتبع ذلك ''وقود الطائرات'' و''الديزل'' بطاقة إنتاجية تقارب 150 و82 ألف برميل يومياً لكل منهما. تشكل هذه الكمية قرابة 2.8 في المائة لكل منهما من الإنتاج العالمي اليومي ''لوقود الطائرات'' و''الديزل''. ثم يتبع ذلك ''الوقود المسال'' و''منتجات نفطية أخرى'' بطاقة إنتاجية تقارب350 ألف برميل يومياً لكل منهما. تشكل هذه الكمية قرابة 2.4 في المائة من الإنتاج العالمي اليومي ''للوقود المسال'' و''المنتجات النفطية الأخرى'' على التوالي.
وعلى الرغم من جميع هذه الإحصاءات حول الطاقة الإنتاجية للمصافي السعودية، إلا أن حجم إنتاج المصافي السعودية يعد متواضعا على المستوى العالمي ما يدعونا إلى النظر في جدوى الاقتصادية للجهود الهادفة إلى التوسع في إنتاج المنتجات النفطية على حساب تقليص كمية تصدير النفط الخام، بما يضمن أولاً، الموازنة بين إيجابيات وسلبيات استخراج النفط الخام بما يفوق احتياجاتنا الحالية، وثانيا، التزام المملكة بإمداد سوق النفط العالمية باحتياجاتها من النفط الخام، وثالثاً، تنويع مصادر الدخل من منتجات ذات علاقة وطيدة بمصدر الدخل الرئيس النفط الخام. وهنا يكمن التأكيد على أهمية النظر في مستقبل المورد الطبيعي الوحيد لأجيالنا آخذين في عين الاعتبار منهجية السياسة النفطية السعودية في الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات بعين الحاضر والمستقبل بهدف تحقيق التنمية المستدامة وجهود التحفيز نحو تنويع قاعدة موارد المملكة الاقتصادية بما يضمن استدامة التنمية وبلوغ الرفاهية الاقتصادية للأجيال القادمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي