القيامة .. وفنُّ الغرس !
الإيجابية، تعني - في نظري - تفاعلٌ مع الحياة بأمل وتفاؤل، من أجل التأثير فيها وقيادتها نحو الأفضل، كما تعني احتراماً لسنن ونواميس تُسيّرُ الكون وتحركه في إطار منظومة دقيقة ومبهرة، وهي بالقطع - أي السنن- لا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول، وهى في ذات الوقت لا تحابي ولا تجامل، ولكن تحترم من يحترمها، وتتجاهل من يتجاهلها، وأعني أن الكون ينفعل ويتجاوب مع أي إنسان بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه متى ألزم نفسه باحترام نواميسه!، أما من أوهم نفسه بغير ذلك وظنّ أن السماء تمطر ذهباً وفضة، وأن الأرض تنبت زيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً، دون سعى أو كفاح، فأظنه لصاً يتلصص على المستقبل دون امتلاك الوسيلة التي تؤدى إليه، وهذا هو المفهوم المناقض للإيجابية.. السلبية!.
إنّ كل شيء في الكون يتحرك دائماً ليؤدي بحركته مُهمة مُقدّرة ومُحددة، وقد يكون مُخيّراً أو مُسيّراً وهو يفعل، ولكن يظل مُستمداً أهميته وقيمته متى تحرك بفاعلية وإيجابية نحو أداء مهمته على الوجه الأكمل، ويموت ويفقد قيمته ويتلاشى وجوده متى توقف عن السعي لتحقيق أهدافه وغاياته، وانظر إلى الماء لو توقف عن الجريان ماذا يحدث فيه؟!.
الإنسان مُفردة في الكون، لا تنفصل عن ذاك النسق البديع، إذ خلقه الله من أجل القيام بمهمة عُظمى وهى رسالة الإعمار والبناء في الأرض، يتجلى ذلك في قوله سبحانه «هو الذي أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها» ، ومعنى أن يُعرض الإنسان عن انجاز مهمته فكأنما قد تنكر لسر وجوده وغاية خلقه، وعليه فلن يتحقق انسجام وتناغم بينه وبين مفردات الكون الأخرى التي تؤدى مهمتها تلقائياً على نحو مُبهر!.
وبذا، فلا عجب أن يحجب الكون أسراره عن الكسالى والمُقصرين ولو كانوا مسلمين، ويمنحها لذوي الهمة والنشاط ولو كانوا غير مسلمين، لأن الإسلام كمنهج رباني مكتمل وتام، لا يمنح مُعتنقيه صكاً يدعوهم فيه إلى التراخي والكسل والإهمال ونبذ الحياة، ثم يعدهم بأن تأتيهم الدنيا وهى راغمة تتمنى رضاهم وهم يتمرغون في سُباتٍ عَميق!.
بهذا المَنطق، استطيع القطع بأن كل الظواهر السلبية مثل، التطرف والجهل والإدمان والإهمال.. الخ، هي ظواهر صنعتها أيدي البشر، وليس للقدر أو للصدفة فيها نصيب، كما أن الاعتدال والعلم والاستقامة والجدية هي ظواهر ايجابية أفرزتها حركة إنسانية جادة تسعى لدفع الحياة نحو التطوير والتحديث المستمر.
إذاً، فالإنسان ليس مُجرد ريشة مُعلّقة في الفضاء تتقاذفها الرياح أنى شاءت، ولكن هو كائن ذو عقل وإرادة، بهما فُضل على كثير من خلق الله، وبهما كُلف، وبهما استُخلف في الأرض، كي يقودها نحو الأفضل دائماً، ودور العقل أن يفكر، ودور الإرادة أن تنفذ، وبذا فلو تخلى الإنسان عن عقله وإرادته لتخلى وقتئذ عن إنسانيته المُكرمة وانحطّ إلى مرتبة أدنى من كونه إنساناً.
من أجل هذا، وجب على كل إنسان في أي مكان أو مكانة أن ينفض عن كاهليه غبار السلبية والانهزامية، بالنهوض من على مقاعد المتفرجين، وبالنزول إلى ميدان الكفاح الشريف، والعمل الدءوب، الفاعل المؤثر، الذي ينفع ولا يضر، الذي يبنى ولا يهدم، بأن يكون فاعلاً لا مفعولاً به، في زمن لا يتعرف إلا بالمجيدين، بأن ينضم بحب إلى قوافل التعمير والبناء وينبذ كل دعوة لهدم الحياة، بأن يخلص لوطنه ويسعى بصدق لتحقيق غاياته في حدود طاقاته. عندئذٍ فقط تتغير نظرة الإنسان إلى نفسه، وعندئذ يتغير لون وطعم الحياة ذاتها، بل عندئذ يصبح الإنسان إنساناً.
وتبقى كلمة الإسلام الخالدة، حيث جاءت في حديث سيد الخلق وحبيب الحق محمد "صلى الله عليه وسلم"، إذ قال «إذا قامت القيامة وفى يدكم أحدكم فسيلة فليغرسها».. فهل هناك ايجابية أعظم من ذلك؟!.