محمد الشريف يبني جسور الحوار
يأتيك صوته على الهاتف هادئاً وقوراً، يحدثك برقي واحترام ثم ينصت لرأيك بصبر يدفعك إلى الاستماع لما يقول. مكالمة محمد الشريف، رئيس هيئة مكافحة الفساد أجابت عن العديد من أسئلتي التي طرحتها في مقالي السابق ''من هي الرؤوس الكبيرة؟''. حتى في انتقادي لأداء الهيئة، جاء تعقيب الشريف بعتاب لطيف ثم أوضح الصورة باتزان وثقة.
قلت في مقال سابق إن كتاب الرأي عندما ينتقدون أداء مؤسسة حكومية أو أهلية فهو من باب التصحيح وليس التجريح. ردود الفعل من الجهة المعنية تأتي في أساليب ثلاثة : الأول دفن الرأس في التراب وعدم الرد كأن شيئاً لا يعنيها من قريب أو بعيد. الأسلوب الثاني هو الرد بغلو وإنكار شديدين، فيبني المسؤول حائطاً عالياً حول مؤسسته عوضا عن بناء جسر للتحاور مع الآخرين. بل يجتمع جهابذة العلاقات العامة في تلك المؤسسة لتصنيف كُتاب الرأي إلى موالين ومعارضة يتم بعدها تحديث القوائم السوداء.
أما الأسلوب الثالث فهو المتزن والواثق الرصين الذي يبادر ببناء الجسور والحوار مع الكاتب برقي واحترام، ولي تجارب عدة سابقة مع وزراء ورؤساء هيئات حكومية خدمية وشركات أهلية راقية ممن يتبعون هذا الأسلوب.
أكد لي الشريف ما كنت أعرفه سابقاً أن رسالة مكافحة الفساد هي العمل على حماية النزاهة ومكافحة الفساد في الأجهزة المشمولة باختصاصات الهيئة؛ لخلق بيئة عمل في تلك الأجهزة تتسم بالنزاهة، والشفافية، والصدق، والعدالة، والمساواة.
ظاهرة الفساد تعد ظاهرة تختلط فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذا تتعدد أسباب نشوئها وانتشارها. من هذه الأسباب عدم اتساق الأنظمة ومتطلبات الحياة الاجتماعية وضعف الرقابة. أعلم تماماً أن مهمة الشريف لن تكون سهلة، لكنه على الأقل يبني جسور الحوار البناء بثقة وجدارة.
مهمة تنسيق جهود القطاعين العام والخاص في تخطيط ومراقبة برامج مكافحة الفساد وتقويمها ليست يسيرة على أحد، فهي تشمل أيضاً جمع المعلومات والبيانات والإحصاءات المتعلقة بالفساد، وتصنيفها، وتحليلها، وتنظيم قاعدة معلومات وطنية لمكافحة الفساد. في نهاية الأمر، ما تسعى إليه الهيئة هو تعزيز مبدأ المساءلة لكل شخص مهما كان موقعه، للوصول إلى الحقائق وكشفها دون تهيب، وعدم التفريق في المعاملة وفق المركز الوظيفي أو الاجتماعي، لمكافحة الفساد أينما وجد.
بصراحة لا أحسد هيئة مكافحة الفساد على مسؤولياتها، فهي تتضمن أيضاً تعزيز جهود الأجهزة الضبطية المتعلقة بمكافحة الفساد وتوضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة والمؤسسات العامة والشركات المساهمة. هذه في حد ذاتها مهمة شاقة، خاصة أن الجهات المشمولة باختصاصات هيئة مكافحة الفساد هي الجهات العامة في الدولة، والشركات التي تمتلك فيها الدولة نسبة لا تقل عن 25 في المائة من رأس مالها، وبعضها – مع الأسف - تعتقد أن الأسوار العالية التي تبنيها حولها ستحميها من المساءلة.
كذلك يندرج تحت اختصاصات الهيئة التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود الأشغال العامة وعقود التشغيل والصيانة، وغيرها من العقود المتعلقة بالشأن العام. في نهاية الأمر، الهيئة مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات النظامية اللازمة في شأن أي عقد يتبين أنه ينطوي على فساد أو أنه أبرم أو يجري تنفيذه مخالفاً لأحكام اللوائح والأنظمة.
أتمنى أن يعلم الفاسدون أن الهيئة ترتبط بالملك مباشرة، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال التام ماليا وإداريا بما يضمن لها مباشرة عملها بكل حياد ودون تأثير من أي جهة كانت، وليس لأحد التدخل في مجال عملها.
في نهاية المكالمة سألت رئيس الهيئة عن رأيه في تأسيس جمعيات أهلية تساند الهيئة في مكافحة الفساد – وهي بالمناسبة فكرة صديقنا العزيز خالد الوابل. لم أستغرب ترحيب الشريف بالفكرة بحماس واضح، فحماية النزاهة تستلزم بناء الجسور وإعداد برامج إصلاح شاملة تحظى بدعم سياسي قوي وتكتسب مضموناً استراتيجيا يقوم على تشخيص المشكلة ومعالجة أسبابها. كذلك تتطلب تعاون الأجهزة الحكومية ومشاركة المجتمع ومؤسساته وإرساء المبادئ والقيم الأخلاقية وتعزيزها بكل الوسائل المتاحة.
ليس هذا فحسب، بل إن الهيئة تعمل على إتاحة المعلومات المتوافرة للراغبين في البحث والدراسة وحث الجهات الأكاديمية ومراكز البحوث المتخصصة على إجراء المزيد من الدراسات والبحوث في المجال نفسه. من مصلحة الهيئة والمجتمع أن تشارك مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة الفساد عن طريق إشراك بعض منسوبي هذه المؤسسات في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد المقترحة، وإشراكها في دراسة ظاهرة الفساد وإبداء ما لديها من مرئيات ومقترحات تمكن من الحد من هذا الوباء الخطير.
أعتقد أن فكرة تأسيس جمعيات أهلية ولجان وطنية لمكافحة الفساد تساعد على وضع برامج توعية تثقيفية في مجال حماية النزاهة ومكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص. الدليل هو أن الهيئة تشجع جهود القطاعين العام والخاص على تبني خطط وبرامج لمكافحة الفساد، ومتابعة تنفيذها وتقويم نتائجها كما ذكر موقع الهيئة. لهذه الأسباب كلها، آمل أن تتم الموافقة على تأسيس جمعيات أهلية لحماية النزاهة ولمد الجسور من أجل وطن أفضل.
أستأذن منكم الآن، لأني أمر على كتل طبقات أسفلتية متآكلة في نفق طريق الملك فهد في الدمام الذي لم يكمل عامه الأول منذ افتتاحه.