الدعم الحكومي للبحوث التطبيقية وتملُّك مخرجاتها

يجمع المؤرخون وأهل الخبرة على أنه من بداية فجر التاريخ كان المحرك الرئيس للتطور العلمي والتقني يتمثل في دعم الدولة المادي والمعنوي للبحوث العلمية والتطبيقية، فكلما زاد الدعم من قبل الدولة، زاد نتاج العلوم والبحوث التطبيقية، ولنا في العصر الذهبي في الحضارة الإسلامية قصة أنتجت عصرا ذهبيا بوزن الكتب بوزنها من الذهب، كفى بريقه ليحفز الغرب على مواصلة ما بدأه الشرق لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
وفي خضم السرعة التي نعايشها بشكل ملحوظ كوننا نراوح في مكاننا واقفين وغيرنا يتقدم بسرعة الإلكترون جعل المشرع في دولة فنلندا الصغيرة المتقدمة يطالب بزيادة الإنفاق الحكومي على البحوث التطبيقية العلمية إلى أكثر من 3.5 في المائة من الدخل القومي السنوي، فنحن ما زلنا نعتمد الرمزية في دعم البحوث التطبيقية مع كل ما نمتلكه من موارد مادية وبشرية.
إننا ما زلنا في مرحلة التخطيط والدراسة وننتقل من خطة إلى خطة، دونما أي ترجمة لما نخطط له إلى برامج للدعم بشكل عملي ومؤسسي وبمنهجية منطقية وثابتة، فمنذ سنوات ونحن نتداول مفهوم الخطة الوطنية للعلوم والتقنية ونفاخر بأنها طموحة، ولكنها لم تتعد مكانها منذ بداياته،ا حتى الاسم لم يختف لتظهر أسماء جديدة لبرامج تفعل ما خطط له.
ومن الطبيعي أن ننظر إلى الجمال والحسن وأن نقدر النجاح والتفوق، حيث إننا ننظر إلى ما يشبه الحسناء الجميلة في ما تقدمه الدول المتقدمة من مخرجات من بحوثها العلمية المدعومة، ونكبر ونتوق إلى ما وصلوا إليه من تقدم ونجاح في مجالات اقتصادية استطاعت أن تستغل كل مواردها البشرية والطبيعية والفكرية، ولنا الحق في كل ذلك، ولكن السؤال الذي يمرغ نفسه في التراب أمام أعيننا هو كيف؟
ولنأخذ مثالا متقدما وهو الولايات المتحدة، حيث دأبت منذ الاستقلال عن بريطانيا على دعم البحوث العلمية والتطبيقية ببرامج فعالة، وكان من حسن طالعها أنها لم تكن وليدة خطط وطنية ثابتة تشتمل على عنوان ومقدمة وخاتمة، بل كانت تعتمد على ''نظام السوابق القانونية'' التي يتم بواسطتها بناء قانون بشكل تدريجي مبني على التجربة الفعلية، ومن ثم تصحيحه حسب ما يتطلبه الوضع بأفرع وقواسم جديدة لتذليل الصعوبات والعوائق واحدا تلو الآخر وحسب أولوية الظهور.
ومنذ أن بدأت الدولة الأمريكية بدعم البحوث العلمية والتطبيقية، كان من السوابق القانونية أن تمتلك الحكومة الفيدرالية جميع الحقوق الفكرية لمخرجات البحث العلمي، فكانت قبل عام 1980 تمتلك أكثر من 35 ألف براءة اختراع سارية المفعول، ولكنها دون مفعول، حيث لم تستطع جهود الحكومة الفيدرالية الحكومية تنشيط إلا نسبة ضئيلة جدا تعد على أصابع اليد في عام واحد، وكان التنشيط هو لأنها تتعلق بعلوم عسكرية.
وانتبه كل من السيناتور باي ودول لهذه المشكلة الكبيرة المتمثلة في هدر الموارد المادية، وإن صرفت بسخاء، وكذلك الموارد الفكرية، وأن وضعت في وعاء مملوك للدولة، وتفتق ذهناهما عن فكرة جريئة في التقدم للكونجرس بسابقة قانونية تشريعية تعكس الوضع القائم إلى 180 درجة، حيث طالبا بأن تتخلى الدولة عن كل البراءات التي تمتلكها، وأن يعتمد قانون جديد يعطي الملكية الفكرية للبحوث التطبيقية المدعومة من الدولة للمؤسسات التي استفادت من الدعم، وذلك لتحفيزها على العمل الجاد في تحويل المخرجات البحثية إلى واقع ملموس ومنتجات وسلع خدمية، وكان لهما ما أرادا، حيث صوت الكونجرس على قانون سمي باسميهما ''باي - دول''، وكان هذا القانون شهادة ميلاد ما يسمى ويتداول هذه الأيام على ألسن كثير من المسؤولين في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وغيرها من مؤسسات الدولة، ذلك المصطلح الرنان ألا وهو - اقتصاد المعرفة - ليختزل هناك في مكتب صغير يسمى مكتب الخطة الوطنية للعلوم والتقنية، وكأننا حصلنا على اقتصاد المعرفة ووضعناه في زجاجة، وهذا المكتب هو عنقها الضيق الذي سيسمح لهذا المارد بالظهور فجأة ويكتسح المملكة، بما سيقدمه من منتجات ومخرجات لاقتصاد المعرفة، وعلينا الانتظار وتجرع التجربة.
وحيث ذكرت ''الإيكونومست'' في افتتاحيتها في عددها الذي صدر في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2002، في الذكرى الـ 30 لصدور هذا القانون، الذي عدته أعظم قانون أمريكي صدر خلال الـ 50 عاما الماضية، ومثلته بطائر الأوز الذهبي الذي لا يبيض إلا ذهبا، وعكس اتجاه السهم بشكل تام من أن يشير إلى التراب كي يشير إلى الذهب، ولكن المشرع لدينا في الخطة الوطنية وجه سهمه إلى جهة التراب وقرر أن تكون الملكية الفكرية في البحوث المدعومة من الدولة ملكا للدولة، ومن ثم أحالها لذاك المكتب الصغير ليكون أمينا عليها وليحفظها خوفا عليها من التطوير والظهور، ولتكون حلقة من ممتلكاته في الحفظ والصون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي