القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن المجتمعات التقليدية أميل إلى تشكيل علاقاتها الداخلية على أساس رابطة موروثة كالنسب والعرق والدين، وهي عوامل ثابتة وطويلة الأمد، بينما يميل أعضاء المجتمعات الحديثة إلى التآلف على أساس المصالح والتفاهمات وتوافقات الأفكار، وهي غالبا مؤقتة أو متغيرة. نحن إذن نتحدث عن نظام علاقات جامد نسبيا مقابل نظام مرن ومتحول.
اتفق معظم الباحثين على أن مخرجات الاقتصاد الحديث، ولا سيما التعليم والإعلام والتحضير، تسهم في تشكيل ذهنية جديدة، تنتج نظام علاقات جديدا، لكن الدكتور محمد الرميحي، المفكر الكويتي المعروف، لاحظ أن انتشار التعليم لم يؤد هذه الوظيفة في العالم العربي، ولا سيما في منطقة الخليج، التي تشهد عودة شبه جماعية لإحياء وتضخيم روابط اندثرت أو نسيت. ثمة آلاف من الناس لم يعرفوا شيئا من تاريخ قبائلهم وطوائفهم وعائلاتهم، ولم يكن انتماؤهم إليها سوى ذكريات باهتة. أما اليوم فثمة جريدة إلكترونية وصندوق خيري ومجلس أعيان لكل قبيلة وفخذ وطائفة وقرية. وثمة اهتمام باستذكار تاريخها، وإعادة تصويرها كجماعة عابرة للزمان والمكان.
عالج هذه الإشكالية بنديكت أندرسون في كتابه المرجعي ''مجتمعات متخيلة''، حين قرر أن انتشار الطباعة يسهم فعليا في خلق هويات جديدة وترميم هويات مندثرة. لم يكن الإعلام الجديد والإنترنت متوافرا يوم صدر الكتاب، لكن أندرسون انطلق من حاجة الناس إلى مبرر للتجمع والانتظام.
يحتاج الفرد إلى تحديد علاقته مع العالم المحيط، أي فهم ذاته كجزء من المكان الذي يقف فيه. الإنسان - ببساطة - يحتاج إلى أن يكون منتميا، عضوا في جماعة، وليس نقطة هائمة في محيط. هذه الحاجة تدفعه للتفكير في الإطارات التي يراها أمامه. حين يجد حزبا أو مجموعة مصالح أو جمعية حرفية أو حلقة نشاط فكري أو منظمة للخدمة العامة، فربما يميل إلى الانخراط فيها، ويعيد بناء هويته وانتمائه على أرضية العلاقة مع أعضائها. وحين لا تتاح هذه الروابط فسيتجه إلى الإطارات الموروثة، كي يعيد تخليقها وتشكيل صورتها الذهنية.
الدافع في كلتا الحالين هو الحاجة إلى الانتماء. حقيقة الانتماء ليست أكثر من صورة ذهنية عن ''جماعة متخيلة''. الفارق بين الحالين هو أن الروابط الموروثة طويلة الأمد، لذا فإن تصنيفها للأعداء والأصدقاء يميل إلى الجمود. إنها بعبارة أخرى ''سور'' بين داخل الجماعة وخارجها. بخلاف الروابط الحديثة، التي تتميز بأنها مرنة وقصيرة الأمد، وبالتالي فإن فكرة العدو والصديق فيها، مرنة ومؤقتة هي الأخرى.
التأزمات الاجتماعية والنزاعات المزمنة، علاجها الوحيد تشجيع الروابط الحديثة على حساب الموروثة. وفيما يخص بلدنا فإن إصدار نظام الجمعيات الأهلية والدعم الرسمي لمنظمات المجتمع المدني، يمثل حاجة ماسة إلى تدوير الزوايا الحادة، وإعادة ترتيب العلاقة بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية التي تتضخم باستمرار.