النفط.. بين بلح الشام وعنب اليمن
يروى أن الملك فيصل -رحمه الله- بعد أن قطع إمدادات البترول عن أمريكا في 1973 قيل له: إن الغرب سيقطع إمدادات التقنية والتنمية والنهضة عن المملكة، فقال قولته المشهورة: "عشنا وعاش أجدادنا على التمر واللبن وسنعود لهما".
هل سنتحمل العودة إلى التمر واللبن والخيام وبيوت الطين والسواني والفلاحة؟ إن كان ذلك ممكنا في عهد الملك فيصل -رحمه الله- فهو يستحيل اليوم، فقد تغير الجيل واستملسنا الفلل والسائقين والخدم والراحة والدعة والكراسي الدوارة!
في السياق نفسه كنا مع بعض الزملاء في رحلة إلى إحدى الدول الإفريقية الفقيرة، وجرّنا النقاش إلى المقارنة غير العادلة بين الخليج وإفريقيا، فقلت: لو لم يُكتشف البترول لكنا في السعودية أكثر فقرا وتخلفا من كثير من الدول الإفريقية! عسى الله أن يديم علينا النعمة والفضل.
في دول الخليج لدينا نعمة كبيرة، قد تتسبب لنا في مشكلة عميقة، هذه النعمة تتلخص في ثروتنا النفطية، هذه الثروة التي غيرت بوصلة الاقتصاد العالمي، التي نعتمد عليها بشكل كامل في إيرادات الدولة وبالتالي في الإنفاق الحكومي، حيث بلغ الفائض في الميزان التجاري لدول الخليج 520 مليار ريال في عام 2011، حققت السعودية نصف هذا الفائض تقريبا، بما يعادل 245 مليارا، هذه الفوائض ناتجة بشكل رئيس من صادرات النفط.
فما زالت المملكة تغذي موازناتها ونهضتها بالثروات التي تجنيها من حصاد الذهب الأسود، إذ تزيد مساهمات البترول الخام في إيرادات الدولة عن 85 في المائة، وتزيد هذه المساهمة عند احتساب البتروكيماويات معه عن 90 في المائة.
مخزون النفط المتكون عبر مئات السنين مهما كثر، طبيعته النضوب، لذلك تجاهد دول الخليج لبناء اقتصاديات مساندة تعتمد على مصادر أخرى لتكون بديلا للنفط في تعزيز إيرادات هذه الدول.
الوفورات الهائلة في المداخيل والفوائض المالية في الميزانية يتوقع أن يقابلها نمو مماثل في الثروة غير النفطية محليا، وقد تكونت الصناديق السيادية محليا، بسبب هذه الوفرة النفطية والبذخ الإنتاجي، وبمقارنة سريعة للصناديق السيادية خليجيا التي تعتبر الأذرع الاستثمارية للدول، وعلى الرغم من الضبابية التي تحيط بهذه الصناديق التي تشبهها بالصندوق الأسود، فقد قدرت أصول الصناديق السيادية الخليجية بقيمة تتجاوز 600.1 مليار دولار، النصيب الأكبر منها لـ "جهاز أبوظبي للاستثمار" بمبلغ 627 مليار، يليه صندوق "ساما" السعودي بنحو 533 مليارا، و"صندوق الاستثمارات العامة" السعودي بنحو 53 مليار دولار، ثم "هيئة الاستثمار الكويتية" بنحو 296 مليار دولار، و"هيئة الاستثمار القطرية" 85 مليار دولار، و"صندوق رأس الخيمة للاستثمار"، الذي تبلغ أصوله 2.1 مليار دولار، وذلك وفقا لتقرير "معهد الصناديق السيادية". نشرته العربية نت مارس 2012.
وتمثل صناديق الثروات السيادية الخليجية حاليا ما يقارب 44 في المائة من تدفقات صناديق الثروات السيادية العالمية، أي ما يقارب تريليون دولار. كما أن من المفاجئ أن 6 في المائة من أصول صناديق الثروات السيادية الخليجية تركز على الاستثمارات في مشاريع التنمية المحلية، في حين أن 88 في المائة من أصول صناديق الثروات السيادية الخليجية يتم استثمارها عالميا لأغراض تنويع مصادر الدخل، والمفاجئ أكثر أن 5 في المائة فقط من أصول صناديق الثروات السيادية الخليجية يتم استثمارها عالميا بهدف التأثير على التوجهات السياسية محليا أو خارجيا، وذلك وفقا لأحدث دراسة لشركة "إنفيسكو أسيت مانجمنت ليمتد"، المتخصصة في إدارة الأصول.
هل نستطيع أن نفعل مثلما فعلت النرويج في التعامل مع النفط؟ لقد قررت النرويج - وهي أبرز دول أوروبا في إنتاج النفط - في عام 1990 التعامل مع البترول على أساس أنه ثروة ناضبة ومؤقتة، وبالتالي عدم اعتبار الدخل الناتج من النفط ضمن الدخل القابل للاستخدام، فأنشأت صندوق بترول النرويج، هدفه تغطية العجز في الموازنة عند حدوثه وليس تمويل الموازنة، وبالتالي تركزت جهود الدولة في تنمية الإيرادات غير النفطية، فكانت النتيجة أن اقتصرت مساهمة النفط في تغطية الموازنة بنسبة تقارب 11 في المائة فقط، والجدير بالذكر أن استخدام أموال هذا الصندوق لتغطية عجز الموازنة لا يتم إلا بموافقة البرلمان النرويجي، وذلك إمعانا في التدقيق في استخدامات الفوائض الناتجة عن النفط.
حكومتنا تقوم "نظريا" بجهود كبيرة لتنويع مصادر الدخل، ولكنها للأسف لم تصل بعد إلى المستوى المأمول، بل ولا حتى جزء منه، فعلى سبيل المثال منذ خطة التنمية الأولى والخطة تركز على هذا التنويع، وكل خطة يتكرر هذا الهدف كهدف رئيس من أهدافها، لكن لم ينزل هذا التنظير إلى أرض الواقع، حيث نجد اليوم وبعد 40 عاما أن مستوى مساهمة الإيرادات غير النفطية بالنسبة لمجموع الإيرادات لا يزال مخجلا، فهو لا يتجاوز 8 في المائة في السعودية.
يتم ذلك في الوقت نفسه الذي نستنزف المخزون الهائل من ثرواتنا من النفط، فنحن أكبر منتج للبترول، ونحن من نغطي النقص في الإنتاج العالمي؟ لكن هذا الكرم الإنتاجي على حساب من؟
وهو ما يفرض سؤالا يتساءل حوله كثير من المخلصين: ما هو نصيب الأجيال القادمة من هذه الثروة المستنزفة؟
هل من الأفضل إبقاؤها في باطن الأرض كمخزون طبيعي؟ أم استخراجها وبيعها وانتهاز فرصة حاجة العالم لهذا السائل اللزج العجيب؟ أم الاستفادة من هذه الأموال في تعزيز الثروات غير النفطية من جهة وحفظها للأجيال من جهة أخرى؟
المشكلة الكبرى أن نكون فرطنا في الاثنتين، فالثروة لم تبق كمخزون في باطن الأرض، ولم يتم استثمارها بالشكل المطلوب على الأرض، فينطبق علينا المثل اللبناني: "لا طلنا بلح الشام ولا عنب اليمن".