الوعي والخبال ..!

يعجبني أناس يعيشون في "التوهان" ليس لهم وليس عليهم ، لا يملكون رفاهية الوعي ولا همّ التفكير والقلق بالحاضر أو المستقبل.. عينة كبيرة ألتقي بها في الطرقات والمحافل والعمل . ماعندهم (كما نقول بالعامية) ماعند جدتي ! قد لايحملون غلاً ولا حسداً وقد يعيشون على هذا الكوكب بقلوب نقيّة و روح مرحة لايأبهون بالاحتباس الحراري ولا بمن هو خالد الغنيم مدير عام الخطوط السعودية الجديد ! عدم المعرفة بما يجري جهلاً أو تجاهلاً لن يعطي الحق لي ولا غيري في تسمية حالة الجهل هذه (خبالاً: أي نقصان عقل أو فساده) وإلا سأكون غاشمة ظالمة !!

الخبل هو من يجيد الحمق بلا جنون ، يجيد التخلي والعيش في حالات الرمادية بعيداً عن اللحظة الحاسمة التي تقلب الحياة رأساً على عقب، بينما صاحب الوعي يسقط من طائرة بلا مظلة نحو السحيق من الواقع ... فيفكر ويفكر بكامل أدوات الادراك لديه (حواسه الخمسة) ليكتشف أنه يرى العالم بعين جديدة مختلفة لايملك أمامها إلا الترحيب بنور البصيرة. كلنا قد يمر بهذه اللحظة الفجائية الاكتشافية عندما يرى مالا يراه الآخرون فتصبح الأمور إما "بمبة" وردية أو رمادية تتشح بالسواد.. وتصبح لدينا رغبة في سحق الهواجس وتبرير الاحتمالات فنختار الصمت أحياناً للتعبير عن الوعي بالمعنى. وهي ذاتها تلك اللحظة التي لا يعيش حلاوتها ولا مرارتها أصحاب الخبال !!

فهل تصدقون أني احياناً أتمنى ممارسة التغافل والحمق بجودة !؟ ولكني للأسف لا أملك لذلك سبيلاً ... هل تتخيلون حجم التأنيب عند من يكتشف أنه يجهل كلما تعلم ؟! نحن جيل تعلم بطريقة التجربة والخطأ ووقع فريسة شك الخسارة المؤلم ، ذقنا الرهبة مخلوطة بالمغامرة والسرور المؤقت بما تحقق . كان الوعي يزداد كلما كانت الأهداف في حياتنا أوضح ، ومع كل حجر عثرة تزداد القدرة على توسيع الرؤية وتقبل الاختلاف وتغيير مجالات التركيز في الأشياء التي تحيط بنا.

ألخص رحلة الوعي منذ بدايات في الطفولة؛ فقد كانت كلها تواكل ثم التدرج بالنضج حتى الاستقلالية ، ثم تطورت إلى الاتكالية المتبادلة (في مؤسسة الزواج مثلاً) أو ما أسميه شراكة ، وانطلقنا من كل هذا إلى مستويات وعي أعلى. وأكتشفت بعد تلك الرحلة أن العلاقة بالآخر تبدو أكثر رونقاً ووداً (بالرغم من التأرجح والتأنيب ) من كونها أكثر تعقيداً وتركيباً .

يتمنى الخبال من لا يملك تأجيل الفرص والإمكانات المتوفرة في وطنه، فقد فتح الكثير من شباب هذا الجيل الواعي قلوبهم على مايسمونه الوعي المعياري الأخلاقي الذي يسمح لنا بإصدار أحكام قيمة على الأشياء والسلوكيات فنرفضهما أو نقبلهما بناءًًا على قناعاتنا الأخلاقية. أصبحنا لا نملك ترف الجهل في عصر المعلومات ولا أن ننام في العسل !! أصبح من الضروري أن نعرف الفرق بين طاعة الوالدين والعضُل والاستغلال .. وأن نختار ماذا نتعلم وفي أي مدرسة نتعلم .. أصبح لزاماً للجيل الجديد أن يعرف من سيتزوج ومن يستحق أن يُخلع من الأزواج (خاصة مع ارتفاع نسب الطلاق عند المتزوجين حديثاً).. وأصبح من الضروري ممارسة معنى المواطنة الصالحة .. أو إن ضَنّت البلاد متى نهاجر.

وأصبح من المؤلم السكوت عن تخريب البعض للمرافق العامة ونحن من أكثر الدول استخداماً لمواقع التواصل الاجتماعي في الشكوى والتذمر بأسماء حقيقية او مستعارة ! وبات من الموجع للوعي أن ترى مديراً فاشلاً يتسنم أعلى المناصب بينما آخرون أقدر وأكفأ يقتلونه وأداً خوفاً على مكاسبهم. وصار لزاماً وحتماً بعد كل هذا التراكم من الوعي أن نختار بحرية نوعية الحياة التي نعيشها. كلها بالنسبة لي ليست (خبالاً) بل نقاط انطلاق نحو مجتمع سليم لا تنخر فيه الطبقية ولا المناطقية ولا رؤية الفساد وتفضيل السكوت بدل الشكوى، لمجرد أن الدنيا كلها هكذا ولن نصلح نحن الكون !!

نريد الخبال الذي يكتشف الجمال فقط ويتغاضى عن قبح الوعي فلا نشقى في النعيم بينما أخو الجهالة (بالخبال) ينعمُ ! لأنه في النهاية تظل الغاية الأسمى من الحياة هي رفع قدرتنا على فهم أنفسنا وفهم ما يدور حولنا إلى مستويات أعلى بنظرة أدق ومعرفة أشمل، فـ "العقول الحرة تحدث ضجيجاً " كما يقولون ، وليست (التافهة الخبلة) !
فليتنا نملك ترف " الخبال" !!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي