معلمات من الفضاء .. قصة صنعت في أمريكا والصين
في مطلع هذا الأسبوع، ألقت وانق رائدة الفضاء الصينية محاضرة موجهة إلى جميع طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية في الصين؛ أي أنها تواصلت مع مئات الملايين من البشر من موقعها في المعمل الفضائي على الهواء مباشرة، وتواصلت مع نخبة منهم مباشرة للإجابة عن كثير من أسئلتهم التي منها: هل تستطيعين وأنت في الفضاء تحديد موقعك لتعرفي هل أنت تواجهين الأعلى أم الأسفل؟ سؤال محير من أحد الطلبة رفع من قاعة الدراسة إلى المعمل الفضائي.
ويعد هذا العمل دلالة على قوة الصين في التقنية والعلوم، حيث استمرت المعلمة وانق في محاضرتها لمدة 45 دقيقة، أوصلت معلومات مهمة ودقيقة إلى شريحة كبيرة مستهدفة من الطلبة وإلى مختلف شرائح المجتمع الصيني، ولكن الرسالة الأعظم وصلت إلى جميع أنحاء المعمورة وهي أن الصين قادمة بكل قوة لتؤكد على امتداد حضارتها منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، ولتثبت أن الإنسان الشرقي ند ربما يتفوق على الغرب عندما توافقه الإرادة وتسمح له الظروف.
أما نحن وفي العقود الثلاثة الماضية فإننا نعرف تماما أننا نتجه إلى الأسفل في العملية التعليمية، ونقوم بترقيع لمناهجنا، ونخرج من مبادرة خاسرة إلى مثيلتها التي يستطيع المتخصص أن يحكم عليها بالفشل قبل بدئها، وهذا بسبب أننا وضعنا عملية التطوير في أيدي أناس لا ناقة لهم ولا جمل فيها، وليسوا من ذوي الاختصاص.
قبل عدة عقود كان الطالب لدينا عندما يبعث إلى الخارج يتفوق على أقرانه في الدول المتقدمة، ولكن اليوم أبناؤنا وأحفادنا يصلون إلى المرحلة الجامعية وهم لا يجيدون كتابة اللغة العربية، ولا يحفظون جدول الضرب في مدارس منع فيها الضرب لهدف الرقي بمستوى الطلبة والطالبات.
لست مبالغا عندما أتذكر قصة أحد خريجي الثانوية الذي تقدم لوظيفة أهم ما فيها إجادة اللغة الإنجليزية، حيث قدم سيرة ذاتية باللغتين العربية والإنجليزية كنت متلهفا للقائه، وطلبت منه قراءة سيرته الذاتية باللغة الإنجليزية التي أحسب أنه هو من كتبها، والتي تكفي لقبوله فورا في الوظيفة، ولكن الرجل لم يتلفظ بكلمة واحدة، وقال إن أحدهم كتبها له.
والكل يلاحظ مدى الوهن والضعف في أبنائه وأقربائه كلما جرب التعامل معهم، وكأننا نتعامل مع جيل أمي بشهادات عالية؛ لغرض التوظيف والتميز على الآخرين الذين ربما كانوا هم الأمثل في تقلد المناصب وقيادة العملية التنموية.
ونحن أمام طامة كبرى إن استمرت العملية التعليمية على ما هي عليه الآن، حيث إن عملية التعلم لدى كل شخص تشبه البصمة الحيوية التي لا يمكن أن تتشابه مع شخصين على الكرة الأرضية، ونحن الآن نضعها في إطار واحد ومنهج واحد وحروف محددة معدودة وعمليات حسابية تمر على ملايين البشر من الطلبة عبر العقود الماضية.
اليوم أصبح التعلم أسهل بكثير من قبل، فبضغطة زر تستطيع أن تحصل على مواد بحثية جاهزة للتصفح أمامك وحسب آخر ما صدر منها، الأمر الذي كان يحتاج إلى أشهر أمام المتعلم في السابق عندما كنا نحتاج للذهاب إلى المكتبات العامة للبحث عن المراجع للبحوث.
اليوم لدينا المكتبات المرئية والمسموعة، لدينا المحاضرات التي تنقل بواسطة الشبكة العنكبوتية إلى آلاف الناس، وتسجل للرجوع إليها عند الحاجة، وكل هذه الأدوات متوافرة بشكل لحظي على شاشة العرض في أجهزة الحاسب الآلي.
والمفتاح الوحيد الذي رميناه في البحر هو أنه يجب علينا أن نعلم الطالب والطالبة لدينا كيف يتعلم بنفسه مستقلا عن جميع المؤثرات التي لا تتعدى الإشراف والتوجيه من المعلم، بدلا من أن نعلمهم بقوالب مختزلة ومحددة، لا تكاد تصل إلى الذهن إلا وتتبخر وتصبح أثرا بعد عين.
ودعوني أسرد تجربة لي أثناء زيارتي إحدى المدارس الأمريكية في مدينة سياتل لا تبعد كثيرا عن منزل بيل جيتز التي تشبه المدرسة الابتدائية التي درس فيها، حيث إن المدرسة مستقلة ماليا وإداريا، والمدير هو الذي يوظف كل المدرسين ويحدد رواتبهم، ولا توجد مناهج محددة مطبوعة، بل حد معين من إجادة المهارات المطلوبة في نهاية السنة، والمدرس يبقى في فصله طوال العام، والطلبة هم من ينتقلون من فصل إلى فصل آخر، وتوجد بالفصل كل الأدوات المطلوبة للعملية التعليمية مع مكتبة ورقية وإلكترونية وسمعية وبصرية ومن اختيار المدرس.
وطاولات الفصل دائرية تتسع لخمسة طلبة، وعدد الطلبة لا يتعدى 20 طالبا وفي الخلف مقر لولي الأمر، حيث يراقب المدرسين والطلبة طوال اليوم، وله حصة يومية يختارها مع ابنه أو ابنته لإلقائها على الطلبة، حيث يوقع ولي الأمر على تعهد بأن يحضر يوم مناوبته الشهرية بشكل كامل وقد يكون أحد الأبوين.
لهذا فإن أول درس من الفضاء كان مقررا أن تلقيه رائدة الفضاء كريشتينا ماكولفي، ولكنها دفعت حياتها في سبيله قبل أن تلقيه، حيث انفجر شالينجر وأودى بحياة كل الرواد، وأكملت الدرس رفيقتها باربارا مورقان في رحلة أخرى على مكوك فضائي آخر ولتأتي المعلمة وانق من الصين وتقبل التحدي وهي ما زالت في الفضاء لحظة كتابة هذا المقال، وتمنياتنا لها بالعودة سالمة إلى أرض العلم والتعلم أرض الصين العظيمة لا أرض القيل والقال والتلقين المقيت ووضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.