كفاءة تحقيق مستهدفاتنا التنموية بعد تعديل الإجازة

واجهت فنلندا في بداية التسعينيات الميلادية أعنف أزمة اقتصادية عرفتها منذ الحرب العالمية الثانية. تسببت الأزمة في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20 في المائة، وارتفاع معدل البطالة إلى 17 في المائة، وانهيار سوق هلسنكي المالية، وتراجع قيمة المارك الفنلندي إلى 40 في المائة، وعجز كبير في الموازنة العامة.
عزيت أسباب الأزمة الاقتصادية إلى مجموعة من الأخطاء في السياسة المالية، وسرعة انفتاح السوق المالية على الأسواق المالية العالمية، وانعكاسات ركود الاقتصاد الأوروبي، وانهيار الاتحاد السوفياتي. وضعت فنلندا لتجاوز الأزمة رؤية مستقبلية لاقتصادها تلخصت في جعل الاقتصاد الفنلندي يتبوأ موقعا متقدما في خريطة العالم الاقتصادية بالاعتماد على اقتصاد المعرفة بسبب تواضع الموارد الطبيعية مقارنة بتلك الموجودة لدى جاراتها من الدول الاسكندنافية.
استلزمت عملية التنفيذ إعادة هيكلة جميع السياسات الاقتصادية الكلية والجزئية. ركزت السياسات الكلية على ثلاثة محاور, الأول تطوير نظام التعليم عن طريق إعادة صياغة مناهج التعليم العام والجامعي، وزيادة القدرة الاستيعابية للجامعات. والثاني تطوير البنية التحتية للاتصالات وتقنية المعلومات بحيث شملت جميع المدن والقرى والهجر. والثالث زيادة استثمارات القطاعين العام والخاص في مراكز الأبحاث والتطوير حتى بلغت في منتصف التسعينيات نحو 50 في المائة من إجمالي الاستثمارات.
وركزت السياسات الجزئية على محورين. الأول تحوير بعض الصناعات القائمة لاستحداث صناعات جديدة. من الأمثلة على هذا التحوير تحوير نشاط شركة نوكيا من صناعة الأخشاب والورق إلى صناعة أجهزة الاتصالات. والثاني زيادة فعالية كل قطاع صناعي من خلال مراجعة وضع المصانع غير المنتجة، ومن ثم دمجها مع مصانع أخرى ذات قدرة إنتاجية أفضل أو إقفالها كلية. أتبع ذلك بفتح قناة اتصال مباشرة بين الجامعات ومراكز الأبحاث والتطوير، من جهة، والشركات المحلية، من جهة أخرى، للتعاون المشترك في مجال إعادة هيكلة مناهج التعليم وتوجيه أنشطة الأبحاث والتطوير بما يتوافق والاحتياجات المستقبلية للشركات المحلية، بشكل خاص، ولتوثيق العلاقة بين السياسات الاقتصادية الكلية والجزئية، بشكل عام.
بدأت عملية جني ثمار إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية بعد نحو خمس سنوات، وبالتحديد في نهاية التسعينيات الميلادية، عندما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 5.6 في المائة، وانخفض معدل البطالة إلى 9.8 في المائة، واستعادت سوق هلسنكي المالية عافيتها باستثمارات تعدت 100 مليار دولار، وحققت الموازنة العامة فائضا بمقدار 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
لم تقف عملية جني الثمار عند هذا الحد, بل تعدتها لتحصل فنلندا على اعتراف عدد من المنظمات والمؤسسات الدولية بالمستوى المتقدم الذي تبوأه الاقتصاد الفنلندي في خريطة العالم الاقتصادية. بحصوله على التصنيف الأول في مؤشرات التنمية الاقتصادية لكل من منتدى دافوس الاقتصادي العالمي وبرنامج التنمية للأمم المتحدة لعام 2001.
أسهمت صناعة تقنية المعلومات والاتصالات الفنلندية في دفع عجلة التنمية الاقتصادية الفنلندية بتشغيلها لقرابة ستة آلاف شركة في ثلاثة مجالات رئيسية، المعدات التقنية، والبرمجيات المتقدمة، والاتصالات اللاسلكية، وتربّع شركات عالمية، مثل شركتي نوكيا ولينكس المنتجة لبرامج تشغيل الحاسبات، على هرم الصناعة باستحواذها على نحو 11 في المائة من إجمالي الإنتاج الصناعي، و 20 في المائة من إجمالي الصادرات الكلي.
وعلى الرغم من إنجازات مطلع العقد الماضي، إلا أن دوام الحال لم يكن من المحال عندما بدأت أخيرا بعض التحديات الاقتصادية تلوح في الأفق الفنلندي. حيث شجعت النتائج الجيدة للاقتصاد الفنلندي خلال بداية العقد الماضي الشركات المحلية على التوسع خارجيا. فنجد على سبيل المثال أن شركة نوكيا أنشأت مصانع إنتاج أجهزة الهواتف المحمولة في بعض دول شرق أوروبا وآسيا لتغطية الطلب العالمي من جهة، وتقليل التكلفة التشغيلية من جهة أخرى. كما قامت الشركة بنقل مركزها الرئيس للأبحاث والتطوير إلى غرب أوروبا للبحث عن مصادر ابتكار جديدة. شركات محلية أخرى انتهجت الأسلوب نفسه.
وعلى الرغم من أن تغطية الطلب، وتقليل التكلفة التشغيلية، وإدخال تحسينات في المنتج النهائي تعد أسبابا منطقية لهجرة الرساميل، إلا أنها سببت عجزا في الميزان الفنلندي للاستثمارات المباشرة. حيث بلغ عجز ميزان الاستثمارات المباشرة بداية العقد الماضي نحو 14 مليار دولار، بوجود استثمارات صادرة بنحو 23 مليار دولار، ومثلها واردة بنحو تسعة مليارات دولار فقط، واستمرار العجز في اتجاه تصاعدي، لكن بوتيرة أقل حدة.
أدى العجز في ميزان الاستثمارات المباشرة إلى مزيج من النتائج الإيجابية والسلبية. تمثلت النتائج الإيجابية في توجه الإمكانات البشرية الفنلندية، التي طوّرت خلال التسعينيات، إلى التركيز على تطوير تقنيات جديدة يتوقع أن تقود الثورة الثانية لتقنية الاتصالات والمعلومات منتصف العقد الحالي. وتمثلت النتائج السلبية في ارتفاع معدل البطالة من جديد ليتعدى حاجز 12 في المائة وانتقال حوكمة الشركات المحلية بشكل تدريجي إلى الشركات الأجنبية.
تجسد التجربة الفنلندية في نقل اقتصادها من المحلية إلى العالمية تجربة تنموية جديرة بالمدارسة من منظور الأمر الملكي الكريم الصادر الأسبوع الحالي والقاضي بتعديل أيام العمل الرسمية لتصبح من الأحد إلى الخميس بدءا من السبت المقبل، بعون الله تعالى. حيث بدأت التجربة الفنلندية بتحويل القاعدة الاقتصادية من موارد طبيعية متواضعة إلى موارد معرفة متقدمة. ثم أتبعت عملية التحويل بتطوير الثقافة الاقتصادية لتتعامل بإيجابية مع الموارد المستحدثة وبما يقدم قيمة مضافة إلى العملية التنموية. تجربة ننظر لها ونحن ننتظر النقلة النوعية التي سيحدثها الأمر الملكي الكريم في زيادة كفاءة العمل في القطاعين العام والخاص من خلال زيادة المساحة الزمنية للعمل للقطاعات المحلية ذات العلاقة المباشرة مع الاقتصادات الإقليمية والدولية. زيادة في كفاءة العمل يتوقع لها أن تنعكس بالإيجاب على تحقيق المستهدفات العملية لهذه القطاعات، تحقيق مستهدفات عملية يتوقع لها أن تقدم قيمة مضافة إلى كفاءة تحقيق مستهدفات العملية التنموية السعودية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي