الريادة الحقيقية.. في أي مرحلة نحن الآن؟ (2)
في التعليم العالي كمثل ثالث، يكمن محور الانطلاقة الحقيقية للريادة العالمية وتعزيز مفهومها. فبعد أن وضعت الوزارة استراتيجيتها وخططها للوصول للريادة الحقيقية، محليا ودوليا قامت بتعديل بعض المسارات واتخاذ بعض القرارات التي جعلت المنسوبين أساتذة وطلابًا، ذكورًا وإناثا، يتعاونون بهدف تحقيق الهدف الأسمى هو بناء العناصر البشرية الريادية. التوجه نحو دراسة واقع الموارد البشرية وقدراتها مهَّد لتبني العديد من الحلول والبرامج مثل فتح التخصصات المختلفة في العلوم الحديثة المواكبة لمتطلبات التنمية، انتقاء أعضاء هيئة التدريس من البارزين المسلمين والعرب وغيرهم، وتطوير فكر ومهارات القائمين بالعمل الإداري بما يكمل جهود الآخرين في تحقيق جودة المخرجات، تطوير الخطط الدراسية بما يتوافق وتخريج قوى عاملة مؤهلة ومتخصصة. أما من ناحية التدريب فقد أصبح في معظم التخصصات جزء من متطلبات التخرج. التعاون مع أعرق المؤسسات العلمية والتعليمية حول العالم لنقل المعرفة بالأساليب المنهجية المختلفة، واستقطاب الأساتذة والرياديين في التخصصات المختلفة المهمة للتخطيط الاستراتيجي والبحث والابتكار، دعم الأبحاث بطرق مختلفة، إضافة إلى إيجاد مصادر تمويل مستديمة تعين الجامعات على تمويل برامجها الريادية محليا ودوليا. كما أن التواصل البناء مع المجتمع لخدمته في كل ما يؤدي إلى تنويع الثقافات وتطوير المهارات ونقل التقنيات فتح أسوار الجامعات على المجتمع لتدخل هذه الصروح مرحلة مميزة من البناء تتخطى المنظور السابق لرسالتها وأهدافها. أما الابتعاث والتوسع فيه فقد أصبح علامة فارقة وضعت السعودية في مقدمة دول العالم الأكثر استثمارا في مواردها البشرية في هذا القرن.
كل هذه البرامج وُجهَت لصنع الرياديين الذين يعول عليهم مواصلة المسيرة بأسلوب عالمي بما اكتسبوه من معارف ومهارات تؤهلهم لذلك. والجامعات الآن أصبحت قطارات تغطي مساراتها المملكة. تتقابل بعضها في الرؤى وتتوازى الأخرى في الرسائل، ولكن أهدافها كلها أن تتحرك لوجهة واحدة تصل بالمخرجات إلى أن يكونوا قادرين على التميز محليا ودوليا فيما يقومون به ويخططون له ويديرونه. ولقد أخذت الجامعات على عاتقها مع الوزارة عقد المؤتمرات لتناقش المحاور ذات الأهمية البالغة في تأسيس الشركات والمؤسسات المستقبلية، وصناعة الرياديين فكرًا وأداء، وما يمكن أن يستديم نتيجة السير في تنمية شاملة. ومما لا شك فيه أن هناك خطوات تنموية عديدة في سبيلها للظهور خلال العقد الحالي لإبراز مكنون رياديي هذه الحقبة، وما يدل على تقدم العمل وتبني المعايير حسب الأصول العلمية التي يقاس بها الإنجاز، وذلك لمعرفة مدى تكامل أداء القطاعات مع مسيرة مؤسسات التعليم العالي ''مصانع الرياديين''. التساؤلات هنا: هل سنواجه تحديات إذا ما بدأ التقييم الفعلي للمراحل؟ هل لدينا تعريف وتحديد للمرحلة التي نعيشها الآن؟ هل سنبدأ الآن أمْ سنؤجل تحديد موقع القدم إلى أن نتأكد من أن الواقع يعكس التوقعات؟ ثم هل سنقيس تقدمنا بمقاييس طورناها محليا أم هي دولية تبنيناها كما هي بناء على قناعة بتماثل الموارد والثقافات والمشارب؟
إذا كان التقييم سيأخذ في الحسبان المبادئ النظرية والعملية، العقلية والسلوكية، للأفراد والمؤسسات فسنحتاج إلى بيوت الخبرة كلها للقيام بذلك. أما إذا كان عبر الرصد الذي وضعت أسسه مسبقا بالاعتماد على الإحصائيات والابتكارات والقرارات في مستوياتها العليا فهناك حاجة إلى نوعية من جامعي البيانات ومحلليها لديهم خبرة طويلة في القيام بذلك. لذلك لو بدأنا بما صغناه وتبنيناه من قيم عند الانطلاقة بتنميتنا المتسارعة فهل ذلك يوضح بعض المعالم؟
الدراسات السابقة في الريادة بمفاهيمها المتعددة في المجالات المختلفة وضعت نماذج منها ما هو معقد ومنها البسيط. وقد لا نحيد كثيرا عما نشر، ولكن نريد أن نبرع في تناول ما يعنينا. فالجودة مثلاً عبارة عن التزام بتبني أفضل المعايير وأكثرها اتفاقا على ما يقود للتميز. أما تلاقح الفكر بالاهتمام بالتعامل مع ''الآخر'' وتبني التجارب القابلة للتطبيق محليا فهذا لا شك مؤشر يوحي بقدرتنا على تجاوز الـ ''نحن'' و''كُنَّا'' إلى ''من سنكون'' كمحترفين وقياديين ومبدعين. تبني سياسات مثل فتح الأبواب وتعدد قنوات الاتصال لتمكين العامة من نقل ما لديهم للمسؤولين وإصدار ما يمكن أن يتحمله ويتقبله العامة في المقابل، يمكن أن يضع ''التقدم شموليا'' عنوانا لمرحلة من المراحل. تنمية روح المبادرة والإبداع وحب التطوير كل فيما يختص فيه ويبرع يجعل محركات التنمية تجدد طاقتها فتسرع وتيرتها وتحقق التوقعات. التوزيع المتوازن للموارد في جميع المناطق والمحافظات والأحياء قد يصاحبه مبادرات من السكان بتحسين الاستخدام الأمثل والاستهلاك المعقول فتكون الاستدامة ريادة في حد ذاتها. الالتزام بالمصداقية والأمانة في العمل في جميع مستوياته ومجالاته نشر لثقافة كانت موجودة تبعثرت خيوطها لفترة بين بعض الطبقات، ولكن بالجدية والعودة الحكيمة يمكن لملمة الخيوط والعودة للمسار. أما عن المحافظة على البيئة وتحقيق السلامة في العمل فما كان محسوسًا أصبح جُله ملموسًا. لذلك نحتاج إلى وضع قيمة أو مقياس يحدد واقع الحال. إدارة المعرفة بالأسلوب الذي ينمي محتواها ويوثر إيجابا في نشرها وتداولها ويحافظ على تزامنها مع كل تغيير مع الاستفادة منها محورٌ يضعنا أمام مسؤولية كبيرة في تحقيق الريادة العالمية. فهل نعتبر أنفسنا وصلنا أم ما زال أمامنا طريق لتخطي ما يصادفنا من تحديات؟