هل لثقافتنا الصحية علاقة بحجم الإنفاق على الصحة؟
لا شك أن الدراسات تعددت في تتبع تطور الصحة العامة في المملكة العربية السعودية. هذا ليس بغريب لأن المتابع والقارئ لتاريخ مملكتنا الحبيبة سيجد أن مع كل ما واجهته المملكة من ظروف خلال العقود الماضية إلا أن الصحة كانت في مقدمة ما اهتم به ولاة الأمر -حفظهم الله- فأولوها الاهتمام والرعاية وخصصوا الدعم اللازم في كل حقبة فكانت الإنجازات تتحدث عن نفسها. الكل يعرف أن بداية الاهتمام بالشأن الصحي كان في عام 1344هـ الموافق 1925 عندما أنشئت أول مديرية للصحة، بأمر من المؤسس -طيب الله ثراه وأسكنه فسيج جناته. وفي عام 1370هـ الموافق 1950 تحولت إلى وزارة للصحة بميزانية وقدرات تنامت مع الوقت منذ ذلك التاريخ. بالطبع بدأت الخدمة أساسا علاجية وإسعافية ثم تدرجت لوقائية التي تطورت لتكون توعوية بغية رفع مستوى ثقافة المجتمع صحيا فيكون الفرد، مواطنا أو مقيما، مساعدا ومساندا في ازدهار النظام الصحي ومقياسا لتطوره. في هذه الأثناء وقبل وفاة المؤسس، المأجور بإذن الله، كانت المستوصفات كمراكز للرعاية الصحية الأولية منتشرة في المملكة، حيث قدرت بـ25 مستوصفا و30 مركزا صحيا آنذاك ''أي قبل عام 1373هـ الموافق 1953''. في هذا النوع من الخدمات الصحية يمكن كتابة مجلدات تحكي أثر الدعم السخي للصحة. لكن أعتقد أن في كتاب ''النهضة الصحية في المملكة العربية السعودية'' الذي ألّفه الدكتور محمد مفتي -رحمه الله- وتم نشره في عام 1998 معظم ما يريده أي باحث عن إنجازات المملكة في تطور النظام الصحي في المملكة وحجم الإنفاق لحين إصداره.
مروراً بالزمن التالي لإصدار ذلك الكتاب ووصولا إلى الوقت الحالي ومشاهدة تركيبة النظام الصحي ووسائل تقديم الخدمة الصحية نجد أنفسنا اليوم نعيش مرحلة جديدة من تقديم الخدمة، حيث توسع المفهوم ووجه الصرف ليغطي تكاليف المدن الطبية في أنحاء المملكة، وبالتالي تطور آليات التواصل والربط بين المرافق الصحية المختلفة. لكن إذا ما أردنا أن نقيم ونقارن مستوى الإنفاق عبر العقود المتوالية بوضع الفرد صحيا، مواطنا كان أو مقيما، فإن أول ما نبحث عنه هي الإحصاءات الدقيقة والتفصيلية التي تغذي مثل هذه الدراسات وأي من الأبحاث التي تتناولها الجامعات ومراكزها العلمية البحثية. وإذا ما توافرت فأول ما يمكن أن نتناوله هو موضوع الرعاية الصحية الأولية وحجم تأثير تقديم هذا النوع من الخدمات في أفراد المجتمع صحيا.
في الواقع لا توجد لدينا إحصاءات تدل على أن نسبة معينة من السكان تزور المراكز وأخرى تزور المستشفيات ''بمعنى تكون مسجلة وتراجع المرفق في كل حالة حسب نوع الشكوى''. وإذا ما توافرت مثل هذه المعلومات فسنتمكن من حساب نسبة السكان المسجلين لدى المراكز الصحية وزياراتهم، وبالتالي يمكن بعد ذلك حساب نسبة تفضيل المراكز عن المستشفيات أو العكس. يذكر ذلك لأن في أستراليا على سبيل المثال وجد أنه في عام 2011 يزور أربعة من خمسة من السكان ''أي 80 في المائة'' المراكز الصحية وهم مسجلون فيها، في حين أن القلة يزورون المستشفيات. في كندا من ناحية أخرى، وجد أن 72 في المائة مسجلون في المراكز الصحية ويفضلون زيارتها عن المستشفيات. هذا الوعي الصحي الذي وصلت إليه مثل هذه المجتمعات يدعونا لأن نبدأ بجعل تسجيل السكان مسألة إلزامية لتساعد هذه الخطوة على حل كثير من المشكلات الصحية وأولها عبء المراضة. صحيح أن هناك برنامجا أو تطبيقا بدئ فيه قبل عام تقريبا، لكن مشكلة التوعية الصحية دائما ما تكون متهمة بالتقصير في مثل هذه المجالات الحساسة.
مع أنني أعلم أن المرجع الإحصائي هو مصلحة الإحصاءات العامة، إلا أني أرى أن الكتب الإحصائية التي تصدرها وزارة الصحة فيها الكثير من البيانات التفصيلية التي تثري أبحاثنا الصحية وتساعد على تحسين إبراز دور الأجهزة المختلفة في القطاع. وإذا ما تحسن دور باقي الأجهزة المقدمة للخدمات الصحية لإصدار تقارير مماثلة فمن الطبيعي أن حصرنا لعوامل التحسين والتطوير سيكون أفضل. وكمثال لأهمية البيانات التفصيلية فمن واقع الإحصاءات المنشورة فقد بلغ في عام 1432هـ عدد الزيارات لمراكز الرعاية الصحية الأولية في المملكة 54.52 مليون زيارة، في حين بلغت لمستشفيات المملكة جميعها 77.35 مليون زيارة. هذا يعني أن التوعية الصحية التي وجهت لرفع المستوى الثقافي الصحي للتوجه لطبيب الأسرة أو أطباء مراكز الرعاية الصحية الأولية عوضا عن عيادات المستشفيات أو الطوارئ ما زالت دون مستوى التوقعات. والواقع يفرض خفض الرقم الأخير بشكل كبير جدا، ليس لترسيخ مفهوم الرعاية الصحية الأولية، وتخفيف الضغط على المستشفيات، بل أيضا لتبيان مستوى تغيير نمط المعيشة والثقافة الصحية لأفراد المجتمع. هذا لن يقلل من أهمية خفض الرقم الأول الخاص بزيارات المراكز الصحية، لأن الهدف هو نشر الوعي في المجتمع ليتبنى الفرد مبدأ ''الوقاية خير من العلاج''. ولا بأس بعدها إذا حصرت الزيارات للمستشفيات في الفئات العمرية الصغيرة وكبار السن من الجنسين، والحوامل.
خلاصة القول: إننا نريد قياس مدى استفادتنا من الموارد المتاحة وتأثير ذلك في الصحة العامة؛ حيث منه أيضًا توجيهنا لكل الدعم نحو تطوير الفكر الصحي، وتحسين تجهيزات المرافق الصحية، وصيانتها، خصوصا في المناطق التي لم تحظ بالحظوة نفسها التي تميزت بها مناطق أخرى. أتمنى أن يتم ذلك قبل نهاية الخطة الخمسية الحالية، فلدينا الكثير لنقوم به وننجزه في الخطة الخمسية القادمة بإذن الله.