الإعلام الخارجي السعودي.. فاعلية عملية الاتصال (1 من 2)
قيس بن الملوح ''مجنون ليلى'' شاعر غزل، من المتيمين، من أهل نجد. لم يكن مجنوناً، وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد التي نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها. فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، فيرى حيناً في الشام، وحيناً في نجد، وحيناً في الحجاز، إلى أن وجد ملقى بين أحجار وهو ميت فحمل إلى أهله.
لم يتمالك ''مجنون ليلى'' نفسه خلال هيامه في أرض جزيرة العرب بعد صدمته النفسية بحجب ليلى عندما وجد الواشون ينثرون كلاماً مغلوطاً عن جمال ليلى ومآثر بني عامر، ففاضت قريحته بالشعر الهادف إلى الدفاع والذود عن مكامن جمال معشوقته ليلى وبطولات قبيلته بني عامر. لم يكن الدور الذي أداه ''مجنون ليلى'' خلال رحلة هيامه سوى دور إعلامي خارجي ذكي نافذ أسهم، أولاً، في الهجوم الاستباقي على الوشاة، وثانياً في الدفاع الإلحاقي عن إخفاقات الموشى بها.
دور وطني طموح أسهم في بناء هوية ليلى خارج نجد، وصنع رهبة في نفوس أهل الجزيرة العربية من بطولات بني عامر. يجسد دور ''مجنون ليلى'' ما يفترض أن يكون عليه الإعلام الخارجي السعودي في تطوير الهوية الوطنية بما يخدم الثقل الديني والاقتصادي والسياسي السعودي على المستويين الإقليمي والدولي. مشروع وطني طموح يستأنس الوقوف على واقع منظومة الإعلام الخارجي السعودي، لأهمية التعرف على واقعه وجذوره التاريخية كنقطة بداية نحو التوصية بملامح منظومة إعلام خارجي سعودي حديثة تسهم بشكل أكثر فاعلية في تطوير الهوية الوطنية.
تستلزم هذه الوقفة توضيح أمرين رئيسين. الأمر الرئيس الأول، تعريف عناصر عملية الاتصال البشري. تتألف عملية الاتصال البشري من خمسة عناصر: الأول، المرسل، وهو الشخص الذي يرسل الرسالة، الثاني الرسالة، وهي المحتوى الذي يريد المرسل إرساله، الثالث الوسيلة، وهي الأداة التي يستخدمها المرسل لإرسال رسالته، الرابع المستقبل، وهو الشخص الآخر الموجه إليه رسالة المرسل، والخامس الجهاز، وهو المحيط الذي تتفاعل فيه العناصر الأربعة أعلاه.
والأمر الرئيس الثاني التفرقة بين دور الإعلام الداخلي والإعلام الخارجي. يختلف مفهوم الإعلام الخارجي عن الإعلام الداخلي في ثلاثة جوانب: الأول تاريخي، كون الإعلام الخارجي مفهوماً تاريخياً عريقاً عرفته المجتمعات البشرية منذ القدم. والثاني وظيفي، كون الإعلام الخارجي أداة مكملة لتنفيذ السياسة الخارجية. والثالث، تشغيلي، كون الإعلام الخارجي يعمل في هامش خطأ ضيق جداً.
فقد ظهرت في تاريخ الإعلام الخارجي السعودي منذ العشرينيات الميلادية من القرن الماضي وحتى اليوم عشر حركات إعلامية متعاقبة. فالحركة الأولى حركة ''التدويل الإعلامي'' (1926-1980)، والثانية حركة ''النشأة الحكومية'' (1930-1960)، والثالثة حركة ''صحافة الأفراد'' (1930-1960)، والرابعة حركة ''الدمج الصحافي'' (1960 إلى 1990)، والخامسة حركة ''التنظيم الوزاري'' (1962 ـــ 1976)، والسادسة حركة ''الأنشطة الوزارية'' (1958 ــ اليوم)، والسابعة حركة ''الإعلام الخارجي المتخصص''(1960 ـــ 1990)، والثامنة حركة ''إعلام الشؤون الخارجية''(1980 ـــ اليوم)، والتاسعة حركة ''الإعلام الاستثماري'' (1990 ـــ اليوم)، وأخيراً وليس آخراً حركة ''الإعلام الفردي'' (2000 ـــ اليوم).
حيث بدأت الحركة الإعلامية الأولى، ''التدويل الإعلامي'' (1926 ـــ 1980)، من خلال باكورة نشاط الإعلام الخارجي السعودي بتأسيس ''إدارة المطبوعات والمخابرات'' في 1926، فـ ''إدارة المطبوعات والصحافة'' في 1930. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''مديرية الشؤون الخارجية''، ووضوح الرسالة، ''إزالة ما ألصق بالمملكة من حملات وشائعات مغرضة في مراحل التأسيس الأولى''، وفاعلية الجهاز، ''وزارة المالية''. ولكن اتسمت بتواضع الوسيلة الإعلامية، ''خطابات رسمية''، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول''. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو ظهور حركات إعلامية متعاقبة.
فبدأت الحركة الإعلامية الثانية، ''النشأة الحكومية'' (1930 ــ 1960) بإنشاء ''مجلس دعاية الحج'' في 1936، فصدور جريدة ''أم القرى'' في 1942، فبداية البث الإذاعي في 1948، فإنشاء ''المديرية العامة للصحافة والإذاعة والنشر'' في 1958، وانتهاءً بإصدار ''نظام المطبوعات والنشر'' في السنة ذاتها. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''مجلس دعاية الحج''، ووضوح الرسالة، ''جهود المملكة في خدمة الحجيج''، وفاعلية الوسيلة الإعلامية، ''الصحافة''. ولكن اتسمت بعمومية شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول الإسلامية وغير الإسلامية''، وتواضع فاعلية الجهاز بعدم وجود عنصر الثبات التنظيمي. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو تنظيم العمل الإعلامي الحكومي.
ثم ظهرت الحركة الإعلامية الثالثة، ''صحافة الأفراد''، (1930 ــ 1960) عندما عملت بشكل متواز مع الحركة الإعلامية الثانية، ''النشأة الحكومية''. اتسمت الحركة بقوة رسالتها، ''التفاعل مع الحركات الأدبية والسياسية الراهنة''، وفاعلية الوسيلة، ''الصحافة''. ولكن اتسمت الحركة بعمومية شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول الإسلامية وغير الإسلامية''، وتواضع فاعلية الجهاز بتواضع قوة تأثير المرسل في المستقبل، ''مجموعة من المثقفين السعوديين''، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع المتأثرين بحركات الاستقلال والقومية العربية على اختلاف ثقافاتهم الأيديولوجية''، وعدم وجود جهاز حكومي مساند. وعلى الرغم من ذلك إلا أن الحركة مهدت الطريق فيما بعد لظهور الحركة الإعلامية الحادية عشرة، ''الإعلام الفردي''، (2000 ــ اليوم).
سميت الحركة الإعلامية الرابعة فـ ''الدمج الصحافي''، (1960 ــ 1990) بصدور نظام ''المؤسسات الصحافية الأهلية'' في 1963، فبث محطتي ''الجيش الأمريكي''، و''أرامكو'' التلفزيونية، فأزمة الخليج الثانية في 1990. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''المؤسسات الصحافية''، وفاعلية الرسالة، ''الصحافة والتلفاز''، ووجود جهاز إداري حكومي يشرف على الأداء. ولكن اتسمت الحركة بتواضع محتوى الرسالة، ''الثقافة والترفيه''، وعمومية شريحة المستقبل، ''جميع المواطنين والجاليات''. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو قيام العمل الإعلامي المؤسسي الحكومي.
نشأة الحركات الإعلامية اللاحقة ودورها في تكوين منظومة الإعلام الخارجي السعودي، والدور المأمول في التعامل مع التطورات السياسية اليوم، هو موضوع الجزء الثاني من المقال.