89 مليون ريال يهدرها موظفو الحكومة يوميا .. كيف نسترجعها؟

بقدر ما أفتخر بمرور 83 عاما على تأسيس هذا الوطن الكبير، إلا أنني أشعر بألم وحسرة حين أرى أن بعض أبنائه لا يبذلون العطاء المأمول، ويحرقون على مرأى الجميع 89 مليون ريال يوميا!
إذ قدرت وزارة الاقتصاد والتخطيط بحسب تقرير لها أن إنتاجية الموظف الحكومي تبلغ ''ساعة واحدة'' في اليوم، علما أن المواطنين السعوديين لم يفاجأوا من ذلك التقرير، لأنهم أصلا قد تحققوا من صحة المعلومة منذ زمن بعيد، ومن خلال ملامستهم لتدني مستوى الخدمات الحكومية. لكن إذا أدركنا أن عدد موظفي القطاع العام - بحسب تقرير لوزارة الخدمة المدنية - قد وصل إلى 998,138 موظفاً، يشكل السعوديون ما نسبته 92.08 في المائة أي نحو 991 ألف موظف، موزعين كالتالي:
- 28.80 في المائة يعملون على سلم رواتب الموظفين العام.
- 45.85 في المائة يعملون بوظائف تعليمية.
- 14.45 في المائة يعملون بوظائف صحية.
- 5.37 في المائة يعملون بوظائف أكاديمية وقضائية ودبلوماسية.
- 5.53 في المائة يعملون بوظائف المستخدمين.
فإننا نفترض أن 50 في المائة فقط من عدد موظفي القطاع العام المواطنين (495,500) هم الذين يؤدون ساعة إنتاجية واحدة في اليوم، أي أن كل موظف حكومي منهم يهدر ست ساعات يوميا في الإفطار والإنترنت والثرثرة والاستئذان، مما يعني أننا نخسر 2,973,000 ساعة يوميا، ولو ترجمنا هذه الساعات المهدرة إلى أجور (على أساس أجر الساعة 30 ريالا، ما يوازي راتبا شهريا بمعدل قدره 6,300 ريال، فإن ذلك يعني 89,190,000 ريال تهدر يوميا .. رباه .. كم سيصل هذا الرقم في الشهر والسنة إذا استبعدنا الإجازات والعطلات؟ تخيل أننا نخرج هذه الأموال الطائلة من خزائن الدولة ونحرقها أمام الملأ!
مع الأسف، صار القطاع العام مرتعا للموظفين المتقاعسين الذين يرون فيه ''ضمانا اجتماعيا''، وصار بيئة غير تنافسية وطاردة للموظفين المتميزين الذين تعرضوا لإحباط، لأنهم يتساوون مع الموظفين الكسالى من حيث المعاملة والمردود المادي والمعنوي، فيتحول المتميز بفعل ''عوامل التنبلة'' إلى كائن ''حلزوني'' متقاعس مثله مثل غيره إلا من رحم ربي.
وهذا ما دعا وزير الاقتصاد والتخطيط الدكتور محمد الجاسر إلى أن يؤكد الأسبوع الماضي أن التحدي الأكبر الذي يواجه ''السعودية'' هو رفع مستوى إنتاجية العمالة السعودية. لذلك، أطرح مجموعة من الحلول هنا لإحداث نقلة إدارية وتنظيمية جذرية على قطاعنا العام المترهل والمتهالك يمكنها أن تسهم في رفع إنتاجية موظفي القطاع وتأسيس بيئة عمل تنافسية جاذبة للمتميزين:
أولا: التحرر من المركزية الإدارية والمالية: إعادة النظر في أنظمة الخدمة المدنية والمالية مع إلغاء لوائحهما التنفيذية، والتوصية بأن يصاغ نظام جديد للخدمة المدنية (عام ولا يغرق في التفاصيل)، على أن يكون لكل جهة حكومية لوائح إدارية ومالية مستقلة لا تخرج عن الأطر العامة في نظام الخدمة الجديد، ويتم صياغة هذه اللوائح وفق طبيعة عمل الجهاز والخدمات التي يقدمها والوظائف الإدارية والفنية التي يتطلبها للتشغيل وتقديم الخدمات، على أن تكون اللوائح ''الإدارية'' معتمدة من وزارة الخدمة المدنية، واللوائح المالية معتمدة من وزارة المالية، أي على غرار ما هو حاصل في القطاع الخاص، لدينا ''نظام عمل'' يضبط القطاع، بينما لكل شركة ''لائحة تنظيم عمل'' مستقلة، لكنها مبنية على نظام العمل، ومعتمدة من وزارة العمل.
ثانيا: إعادة تحليل الوظائف: فعملية التحليل الوظيفي (job analysis) تسهم في إنتاج مخرجات منها، تصنيف الوظائف، ووضع أوصاف وظيفية، ورسم نماذج للجدارات المطلوبة من كل وظيفة، وتقييم الوظائف (تحديد راتب كل وظيفة)، وتحديد الاحتياجات التدريبية، لذلك فإن إعادة إجراء هذه العملية ليس عن طريق وزارة الخدمة المدنية، وإنما عن طريق كل جهة حكومية وفق طبيعة عملها، سيمكننا من وضع الأهداف المطلوبة من كل موظف ووضع معايير الأداء الخاصة به، وبالتالي تسهل مكافأته عند التميز أو محاسبته عند التقصير.
ثالثا: إعادة هيكلة إدارة الأداء: معظم الأجهزة الحكومية تقيّم موظفيها بطريقة التقييم البياني (Graphic Rating Scale)، وفوق أن هذه الطريقة قديمة وتشتمل على سلبيات كثيرة، فإنها تنفذ بطريقة ''سرية'' لا يستطيع الموظف الخاضع للتقييم أن يطلع على نتائج تقييمه، وبالتالي كيف نطلب من موظف أن يتطور وهو لا يعلم عن نتيجة تقييمه؟ فالطريقة الحالية للتقييم ''ذاتية'' - ليست موضوعية - وتتخذ غالبا كوسيلة انتقام وتصفية حسابات، أكثر مما تتخذ كوسيلة لتعزيز قوة الموظف وتحسين ضعفه، لذلك، لا بد من تغيير طريقة تقييم الأداء نفسها، ووتيرة التقييم، ونظرتنا تجاه نتائج التقييم (إلغاء السرية)، حيث يمكن استخدام طرق كثيرة في تقييم الموظف الحكومي أبرزها ''الإدارة بالأهداف'' أو التقييم الشامل (360 درجة)، على أن تتم متابعة الموظفين باستمرار، وتقييم أدائهم مرتين في العام من قبل الأطراف كافة ومن ضمنهم العملاء (المراجعون)، مع توفير الوضوح والشفافية للعملية، ومنح الموظف حق الاطلاع على تقرير التقييم، ومناقشته مع المدير المباشر، وحق الاعتراض عليه إن استشعر فيه ظلما أو تمييزا ضده.
رابعا: إعادة تصميم سلالم الرواتب: فهذه السلالم تحتفي بالأقدمية، ولا تركز على الكفاءة، وإثابة أصحاب الأداء العالي، وصرف حوافز لهم نهاية العام، لذا نقترح أن يتم تصميم سلالم الرواتب على أساس الإنتاجية والكفاءة، وصرف الرواتب على أساس أجر الساعة (الفعلي)، وليس على أساس الراتب الشهري (المضمون)، أي أن يتم صرف الراتب (الأجر بالساعة) بحسب إنتاجية الموظف الفعلية في اليوم، وهذا يمكن أن يتحقق بفعالية إذا كانت لدينا منظومة صارمة لمتابعة الأداء.
خامسا: الاعتناء بالموارد البشرية: إعادة تدريب وتأهيل الموظفين الحكوميين وابتعاثهم للدراسة، لتوسيع معارفهم وتزويدهم بالمهارات وتغيير عقليات البعض منهم، مع ضرورة بحث جدوى الاستثمار في كل موظف، فالموظفون الشباب يكون عائد الاستثمار أعلى بكثير من غيرهم، مع التركيز على غرس قيم مهمة في القطاع العام، أبرزها: النزاهة، والجودة، وخدمة العملاء، والسلامة.
سادسا: ربط تجديد عقد الموظف الحكومي بتقييم الأداء، كمحصلة للتغيير القانوني المقترح في الفقرة ''أولا'' بحيث يتم تعيين الموظفين الحكوميين على وظائف المرتبة الثالثة عشرة فما دون، بموجب عقود عمل قابلة للتجديد وليس قرارات تعيين، مع تخفيض صلاحية الفصل - إنهاء الخدمات - من مجلس الوزراء إلى الوزير المختص (تعديل المادة 30 - الفقرة ''ح'' من نظام الخدمة المدنية)، بحيث يتاح للجهة الحكومية التخلص من الموظفين المتقاعسين وإحلالهم بالشباب والفتيات المتعطشين إلى العمل والإبداع.
لذا، أرجوكم بكل ما تحمله ''الوطنية'' من معانٍ سامية أن تهبّوا لوقف هذا الهدر الكبير لمواردنا البشرية والمالية والمادية .. دعونا نعيد بناء القطاع العام، ونستغل كل مواردنا الثمينة أمثل استغلال لاستكمال قصة بناء الوطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي