المستثمرون في الجبيل وجذب الشباب
إن الهيئة الملكية للجبيل وينبع منذ تأسيسها عام 1975 وهي نموذج للتخطيط بعيد المدى. كيف لا وقد غيرت أرضا كقرية إلى مدينة بشقين سكنية وصناعية؟ وجعلت بنشاطها البتروكيماوي أحد أكبر تجمعات العالم في هذه الصناعة التي وضعت أقدامها بكل رسوخ، فجلبت لها الأيدي العاملة من أنحاء العالم، وكونت مجتمعا نما مع أبناء الوطن الكريم عبر أربعة عقود تقريبا. منذ البداية والرؤية واضحة، والرسالة متمسكة بمبادئ لم تحد عنها، والالتزام بالقيم ظل مفخرة لكل منسوبي الجهات الخدمية بها وطالبي المعيشة الهادئة فيها، ولكن هل ما زالت كذلك؟
في الواقع بعد عدة زيارات لها بدأت أشعر بأن بعض الشركات ذات الكيان الضخم قد تؤثر في هذا البناء الشامخ، حيث يتم جلب القوى العاملة لتنمية المدينة عملا ومعيشة، ولكن دون تخطيط يرتقي ومكانة المدينة. لقد بدا واضحا أن الإدارات المختلفة لهذه الشركات ستجعل الهيئة في موقف حرج بعد وقت ليس ببعيد إذا ما استمرت على هذه الحال. أعتقد أن كل ما سيقال عن توفير بيئة جاذبة هو أن في المدينة مطاعم وناديا للياقة وسوقا واحدة وفندقا تزيد فيه تكلفة الإقامة في الليلة الواحدة على أي فندق في المملكة بالدرجة نفسها. أما شبابها فإما أن يقضي يومه في الدمام والخبر أو أن يبحر عبر الجسر وما زال يبحث عن حل.
لا أدري كيف أصبح السكن مشكلة في الجبيل مع أنها وضعت استراتيجية لـ 50 عاما تقريبا؟! حاليا لا أعتقد أن هناك دراسة تدلل على أن المعروض يفي بالغرض، لأن التوجه العام هو تسكين عائلات المديرين، في حين أن الشباب الذي استقطب وجذب لا ملجأ له إلا الشقق المفروشة وبعض المباني الطرفية التي تزيد من مشكلة الانضباط والإنتاجية إذا ما استمر الوضع الشاذ في تنام. الرواتب ليست بتلك المغرية إذا ما استمرت أسعار الوحدات السكنية في ازدياد. والمرافق الترفيهية متأخرة جدا وغير متاحة إلا لشاغلي المراتب العليا في الشركات، وهم يتزايدون بسرعة على حساب الفنيين والمشغلين والإنتاجية إجمالا. وبما أن أشهر الصيف تبدأ بإخلاء كبير للسكان رغبة في قضاء العطل مع أهاليهم أو في مناطق جاذبة نجد أن محفزات البقاء في المدينة والإبقاء على القوى العاملة السعودية مسألة تحتاج إلى دراسات وحلول جذرية سريعة. هذا يعني البحث دائما عن الأجنبي وهو عكس ما تتوجه إليه وزارة العمل والتجارة والهيئات المعنية.
لقد أصبحت الموارد البشرية تنتظر تطويرا نوعيا يؤثر في مسار حياتهم لينعكس ذلك على إنتاجيتهم. مع زيادة أعداد المشغلين والفنيين باتت الطبقة الوسطى ''طبقة المهندسين'' غير موجودة، وهذا خطأ فادح في الهيكلة. هل لأن السكن مشكلة، أم لأن الترفيه معضلة، أم لأن التسوق مقتصر على العائلة، أم لأن المصانع تتنامى دون تخطيط والموارد البشرية لا تدار بأصول الإدارة الصحيحة؟ في الواقع لا يمكن القفز بالأجوبة الآن، ولكن الوضع لا يحتمل التأجيل. الموظف الآن أصبح يراقب التضخيم الهائل للهياكل التنظيمية والفروقات الخيالية في الرواتب بين الفئات الوظيفية العليا والدنيا، والمميزات الممنوحة للمديرين وكأن الشركات عبارة عن مجموعة مديرين. هذا ما يجعله باحثا عن البدائل في مناطق أخرى، خصوصا إذا كان مؤهلا أو لديه من المهارات المطلوبة في شركات أخرى تقدر هذه الإمكانات. أما إذا كان متقدما في السن، فهو يرغب بشدة في الاستقالة أو التقاعد لئلا يصدأ عقله ويحافظ على نفسه مبدعا ومفكرا. فهل هذه هي قاعدة استقطاب الموارد البشرية والإبقاء عليها Employee Retention المتبعة في الهيئة والشركات المستثمرة؟
إن حديثنا عن صعوبة سعودة الوظائف لعدم مواءمة الخريجين للعمل في السوق السعودية يمكن أن يعممه مديرو الشركات ذات الكيان الكبير بسهولة، ولكن ماذا لو كان هؤلاء الشباب ممن تم ابتعاثهم لأعرق الجامعات في أمريكا وكندا، من قبلهم، وفي تخصصات تتركز في تصميم المشاريع وإدارة البرامج الضخمة ووضع الخطط الجريئة في إعادة الحياة لكثير من المصانع وتنويع خطوط الإنتاج؟ فهل المقولة يمكن تعميمها أيضا؟ الآن لدينا العشرات بل المئات من العائدين، وقد تخرجوا في جامعات هم اختاروها لهم، فكيف يمكن أن يهمشوا ليقوموا بأعمال سكرتارية ويتم تجاهل كثير من الوعود السكنية والترفيهية؟ هل ستكون الجبيل منطقة جذب مرة أخرى بعد هذه التجارب المريرة لمجتمع العمل، وهذه هي الخطط التي تنتظرهم. لمن لا يعرف من هؤلاء المديرين ''الكثر'' في هذه الظروف أثبتت الدراسات أن العامل مهندسا كان أو مشغلا أو فنيا يفقد مهاراته مع الوقت. هذا يعني أن المديرين عندما ابتعثوا أبناءنا كانوا يريدون أن يزداد المديرون ارتقاء ويزداد العائدون إقصاء ونخلط بين المستويات الوظيفية في المهام فيتيهوا في تعريف أوضاعهم، وبالتالي يمكن تعميم ما لم يتم تعميمه في هذه الظروف.
أتمنى أن تعود الجبيل كما بدأت قوية بالاهتمام بشؤون المستثمرين في الكيانات المختلفة؛ لئلا يسيئوا لها كمدينة فتية أصبحت معلما في أهم الأنشطة الاقتصادية. كما أتمنى أن يكون هذا المقال ''مغلفا بالشوكولاتة'' مثلما شبه الوزير المحبوب عادل فقيه النقد الموجه إلى وزارة العمل؛ لأن القصد هنا الأخذ بيد أبنائنا العائدين وكلهم طموح في أن يشاركوا في المشاريع الوطنية بما تعلموه في أرقى الصروح العلمية في العالم.