الجمعة, 2 مايو 2025 | 4 ذو القَعْدةِ 1446


المفتاح الضائع

تحدث الملاحظة المتحيزة أو الانتقائية عندما ينظر الباحث فقط في الزوايا التي من خلالها يثق بأنه سيجد نتائج إيجابية أو تلك الزوايا التي يصبح تسجيل النتائج خلالها ''سهلا'' ويسيرا، وبالتأكيد أن أي ملاحظة من هذا النوع الانتقائي هي ملاحظة تفتقد الدقة العلمية والمصداقية ولا تصنع إضافة حقيقية.
وربما، حين تقرأ معي ذلك، ستتذكر نوعا معينا من الأبحاث التي تستبق النتائج الإيجابية من عنوانها وفكرتها من أول وهلة.
''أثر إضاءة الشارع'' The streetlight effect
أثر من نوع الملاحظة الانتقائية، وله قصة اشتهرت بأن شرطيا شاهد رجلا مخمورا في الشارع يبحث عن شيء ما تحت إضاءة الشارع فسأله إن كان قد فقد شيئا ما فأجابه بأنه فقد مفاتيحه، وصار الرجلان معا يبحثان تحت النور. وبعد دقائق قليلة سأل الشرطي الرجل لو كان متأكدا بأنه فقد مفاتيحه في هذا المكان، فأجابه المخمور: لا، فقدتها في مكان آخر، لكن هذا المكان هو الوحيد المضيء في الشارع!
وفي ضوء إضاءة الشارع و''أثرها'' يمكن أن نفهم مفارقات كثيرة تحملها أبحاث راصدي الحراك الاجتماعي لدينا، حيث تتحرك البوصلة وفق محيط دائرة الإضاءة.. إضاءة الباحث لا إضاءة البحث!
وحيث لا تعمل لدينا آلية واضحة لقياسات الرأي العام، يبدو الارتكاز على بحوث راصدي الظواهر الاجتماعية منطقيا.
في الوقت ذاته الذي يتطلب أكثر من وقفة مع الجهات الأكاديمية أو المؤسسات المعنية باعتماد تلك البحوث أو تلقيها.. وقفات أكثر جدية من مجرد درجة هنا أو توصية بالنشر هناك إلى أن نستطيع تلمّس مفاتيحنا فيما هو أبعد من بقعة الضوء!
وفي حياتنا اليومية هل نحن لا نرى ولا نبحث إلا بما هو تحت إضاءة الشارع؟
وهل نبحث في المكان الصحيح حين نفقد شيئا ما؟
حين نفقد أفكارا أو حلولا في مكان ما هل نبحث عن بديل لها في مكان آخر غير منطقي؟
هل نحن معذورون حين نرمي ''بكل'' مشاكلنا في تويتر، رغم أننا أضعنا المفاتيح في أماكن أخرى؟
لكن ''تويتر'' منحنا إضاءة الشارع ونحن في سَكْرة المتابعين تائهين!
ديفيد فريدمان هو من صاغ عبارة ''أثر إضاءة الشارع'' واعتبرها نوعا من الملاحظة الانتقائية، لكن القصة والمفهوم استخدمت من قبل وقيل إنها حدثت لنصر الدين خوجة وهو جحا الفرع التركي!
الغريب أن كل الشعوب وكل الأمم صمّمت لها ''جحا'' خاصاً بها بما يتلاءم مع طبيعة تلك الأمة وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماء تختلف وشكل الحكايات ربما يختلف أيضاً، ولكن شخصية ''جحا'' المغفّل الأحمق وحماره لم تتغيّر.
فشخصية نصر الدين خوجة تمثل جحا في تركيا، وملا نصر الدين في إيران وكردستان. ومن الشخصيات التي شابهت جحا بالشخصية إلا أنها لم تُكنّ به غابروفو بلغاريا المحبوب، وأرتين أرمينيا صاحب اللسان السليط، وآرو يوغسلافيا المغفل.
فلكل شعب جحاه، ولكل مفتاح مضياع! القصص تتكرر والحكمة واحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي