دور الجامعات في تعزيز الأمن الاجتماعي والاقتصادي

يتحدد دور الجامعات في ثلاث وظائف معروفة، هي البحث والتدريس وخدمة المجتمع، وكل جانب منها يشكل جوهراً في الهيكلة الإدارية والأنظمة والإجراءات بما يكفل قيام منسوبي الجامعات بهذه الوظائف الثلاث بكفاءة. وقد تبرز بعض الجامعات في وظيفة أكثر من الأخرى، إلا أن ما نعايشه في الفترة الحالية من تحديات مجتمعية واقتصادية تتطلب من الجامعات تكثيف مزيد من الجهود على الوظيفة التعليمية خاصة، فهي أقوى أداة وأنجع وسيلة لمواجهة تلك التحديات واستثمارها بما يعود بالنفع للمساهمة في تنمية الوطن اجتماعياً واقتصادياً، وذلك لأن الوظيفة التعليمية هي المعنية بإكساب الطلبة المهارات اللازمة للحياة وتهيئتهم لسوق العمل.
وتتأكد الدعوة ببذل مزيد من الجهود في المجال التعليمي لأسباب متعددة، منها على سبيل المثال، ما تشهده جامعاتنا في الفترة الأخيرة من زيادة استيعاب خريجي الثانوية العامة، حيث إن نسبة الاستيعاب في جامعاتنا وصلت إلى أعلى نسبة عالمية وهي 90 في المائة، وتلك نتيجة لتضاعف عدد خريجي المرحلة الثانوية بنسبة 400 في المائة خلال الـ 15 عاماً الماضية، وذلك يعني قيام الجامعات بجزء من دورها المنوط بها للمساهمة في بناء الوطن وتنميته، وهذا أسلوب تنموي مؤقت ونسبي، لكنه لا يكفي وحده، إذ قد يكون سبباً في مشكلات أو حلاً لمشكلة لفترة زمنية قصيرة ثم تعود المشكلة أقوى وأصعب مراساً وأكثر تكلفة في المعالجة، فحين تتزايد أعداد الطلبة المقبولين في الجامعات دون أن تقابله أعداد مناسبة وكافية من أعضاء هيئة تدريس متفرغين للتدريس، أو دون أن يواكبه تزايد الدعم البشري والفني للمعامل والمختبرات، أو دون أن يواكبه تكثيف برامج التدريب المعملية والميدانية لهذه الأعداد المتزايدة، فإن حقيقة المعاناة التي يعيشها المجتمع ستبرز بوضوح وتُطلّ علينا ببعض آثارها المحتملة المستقبلية من خلال ضعف متزايد لكفاءة الخريجين ثم ينتهي المطاف ببطالة يكتوي بنارها المجتمع بمؤسساته كافة، لتصبح أمامنا أزمات ولنبدأ من جديد قصة جديدة من معالجات كان يمكن تلافيها بفكر استباقي، حيث تقوم الجامعات بعمل استشرافي يهيئ لأفق تنموي يجعل من التعليم الجامعي لاعباً أساسياً في الحل وليس عبئاً إضافياً يضاعف من مشكلات المجتمع وأزماته الاجتماعية والاقتصادية.
إن أولى الأولويات في ظل تلك التحديات أن يقوم منسوبو الجامعات وكفاءاتها القيادية بمضاعفة الجهود لتحمل مزيد من المسؤولية المنوطة بهم في تحسين أداء الجامعة في وظيفتها التعليمية، يجب أن تضاعف الجامعات قوتها في التأثير الإيجابي والمباشر في تطوير أجيال الوطن وإكسابهم المهارات اللازمة للحياة والتهيئة لسوق العمل. وأحد الخيارات الناجحة التي تُمارس في الجامعات العالمية أن تقوم جامعاتنا بالتركيز على إعداد البرامج النوعية المتعلقة بانتقاء عدد من أعضاء هيئة تدريس ليكونوا نماذج ريادية في كل قسم وكلية، وتقوم بدعمهم لإحداث التغيير في أداء الطلبة، وليكونوا نماذج يحتذي بها من يخالطه تردد أو شك في إمكانية الإنجاز حتى مع ضعف مخرجات التعليم العام. أما المقترح الآخر فهو استحداث مراكز أو وحدات داخل كل جامعة تكون متخصصة في التدريب الوظيفي وتكثيف برامجها وزيادة الدعم المادي والبشري لتفعيلها في جميع كليات الجامعة وبرامجها الدراسية. ويؤكد هذا المقترح أنه اتجاه عالمي وليس مطلباً محلياً فقط. فعلى سبيل المثال في دراسة حديثة (2013) قامت بها مؤسسة أمريكية استشارية على مجموعة من حديثي التخرج الذين انخرطوا في العمل في أمريكا، وجدت أن نسبة كبيرة منهم (63 في المائة) يحتاجون إلى مزيد من التدريب للتوافق مع متطلبات العمل المناسب مع تخصصهم. وهذا ما يؤكد أهمية قيام الجامعات بتطوير برامجها لتتضمن تدريباً مكثفاً للطلبة أثناء دراستهم الجامعية.
تلك هي نماذج عالمية لبعض الممارسات النوعية التي تحتاج إليها جامعاتنا في ظل سياسة التوسع في القبول والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمع، إلا أن نجاح مثل هذه النماذج سيكون مرهوناً بقدرة الجامعات على توفير بيئة إيجابية محفزة للتعلم والتعليم، ومرهوناً بقدرة الجامعات على مضاعفة الجهود في تسخير مواردها المادية والبشرية، ومرهوناً باستقطاب كفاءات قيادية وتعليمية ذات رؤية شمولية قادرة على تحمل مسؤوليتها العظمى تجاه الأجيال في إعدادهم أكاديمياً ومهنياً لمستقبل مشرق. وحين تنجح الجامعات في ذلك فسنجد أن عضو هيئة تدريس حين يقف في قاعة الدراسة أمام طلبته فإنه يشعر أنه يقدم رسالة سامية لوطنه ويساعد على إعداد جيل المستقبل، وأنه يقوم بمساهمة حقيقية ومؤثرة في حفظ أمن وطنه اجتماعياً واقتصادياً، بل تنميته وازدهاره.
إن على مؤسسات التعليم العالي حكومية وأهلية أن تقدم مبادراتها الخاصة بهذا الشأن في سبيل تحسين أداء الطلبة أكاديمياً ومهنياً أثناء الدراسة وتحسين مخرجات الجامعة، حتى تسهم بفاعلية في تقدم المجتمع والمحافظة على أمنه الاجتماعي والاقتصادي. وأي تأخر أو تردد في ذلك – لا سمح الله - فهو مساهمة سلبية تمتد آثارها لإضعاف أمننا الاجتماعي والاقتصادي بزيادة التسرب ومعدلات البطالة وارتفاع معدلات الجريمة وتعطيل التنمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي