طفرة التعليم الجامعي والأمل المنشود

لا شك أن مجرد التأمل في ميزانيات الجامعات السعودية تجعل المرء يصف تلك المرحلة بطفرة مالية غير مسبوقة، فباعتبار أن ميزانية الجامعات تقتصر على بنود محددة من وزارة المالية كما هي في أبواب معروفة لأهل الاختصاص إلا أن كل هذه الأبواب قد ناله حظه ونسبته من الزيادة، بل إن هناك أبواباً أخرى استفادت منها الجامعات في تعزيز ميزانيتها. وفي ظل استحضار تلك القوة المالية في مسيرة التعليم الجامعي في المملكة العربية السعودية ومقارنتها بآخر المستجدات في بعض دول العالم نجد أننا أمام ظاهرة فريدة من نوعها. فالتعليم الجامعي في أمريكا - على سبيل المثال - يعاني التمويل وارتفاع الرسوم مما جعل الطلبة الأمريكيين يدرسون في الخارج لأن التعليم أقل تكلفة، كما تشهد الجامعات الأمريكية معاناة في ميزانياتها مما حدا بها لرفع الرسوم بشكل لافت، كما انتشر في الجامعات التعليم عن بعد وأحد أسبابه قلة التكلفة، وكذلك انتشرت فكرة تقليل سنوات الدراسة الجامعية، وكذلك جمع الطلبة في مدرجات كبيرة. والقصد من ذلك أن التعليم الجامعي في أمريكا يعاني التمويل، ويؤكد ذلك ملخص تقرير عن ميزانية الجامعات في أمريكا والمنشور في ديسمبر 2012 أن الصرف على التعليم الجامعي كان يمثل من الميزانية العامة 13 في المائة في عام 1998م ثم انخفض ليصبح في عام 2011 يمثل 10 في المائة تقريباً، إضافة إلى أن قروض الطلبة الجامعية وصلت في سابقة من نوعها إلى تريليون دولار وهو ما يضاعف من مشكلات تمويل الجامعات، وعلى الرغم من أن ميزانية التعليم الجامعي في أمريكا تحسنت في العام الحالي 2013 عنها في عام 2012 بشكل طفيف (زيادة ملياري دولار فقط نتيجة لاستحداث برامج تطوير جديدة) إلا أن التقرير اختتم رؤيته المستقبلية بأنه يرى استمرار معاناة التعليم الجامعي لسنوات قادمة في ظل سياسة التقشف النقدية التي تمر بها أمريكا من جرّاء الأزمة الاقتصادية ووضوح آثارها على التعليم الجامعي.
أما في بريطانيا فحسب آخر الإحصاءات الرسمية المنشورة فإن ميزانية الجامعات البريطانية زادت بمقدار 20 في المائة فقط خلال خمس سنوات (2008- 2012م)، علماً أن الرسوم الدراسية تمثل منها 35 في المائة وأن حجم الزيادة فيها كان 54 في المائة أي أن الزيادة كانت 7 في المائة فقط خلال السنوات الخمس إذا استبعدنا عامل الرسوم الدراسية.
وبهذا يتأكد أن التعليم الجامعي في السعودية يعيش طفرة غير مسبوقة سواء بالمقارنة بين تطور ميزانية الجامعات السعودية عبر السنوات أو بالمقارنة ببعض الدول العالمية في تمويل الجامعات. وفي الوقت الذي كان تمويل التعليم الجامعي في الدول الأخرى ضحية للمصاعب المالية التي تعانيها تلك الدول فإن التعليم الجامعي لدينا كان من أكبر المستفيدين في تمويله وتحسن موارده المالية، ولاشك أن ذلك انعكاس للميزانية التي حققت فوائض مالية غير مسبوقة. وبهذا يأتي التساؤل الذي يطرح نفسه: ما هو حجم استفادة التعليم الجامعي من هذه الطفرة؟ وهل كان التطور في الدعم المالي مواكباً للتطور المأمول للتعليم الجامعي؟ وحيث لا نملك تقارير ودراسات مؤسسية منشورة يمكننا الحكم من خلالها على تلك التساؤلات؛ إلا أنه يجدر الإشارة إلى أن التعليم الجامعي شهد استحداث برامج وتغيرات لم يشهدها التعليم الجامعي من قبل بهذا الزخم وهي: برنامج الابتعاث، استحداث السنة التحضيرية، برنامج الأوقاف، برنامج التعليم الموازي، هيكلة الجامعات وتعددها وتطوير البنية التحتية، دعم التعليم الأهلي، استحداث مجموعة من البدلات لأعضاء هيئة التدريس. هذه أبرز ملامح التغير التي اتسمت بها طفرة التعليم الجامعي في هذه المرحلة ويبقى السؤال الأكبر: ما مدى الاستفادة الفعلية من هذه البرامج في جودة التعليم الجامعي؟ وحيث إنه أيضاً لا يوجد دراسات مؤسسية منشورة يمكننا الحكم بها على ذلك؛ فلا شك أن هناك ضرورة ماسة لوزارة التعليم العالي بتقويم تلك البرامج من خلال دراسات تقويمية لاستكشاف جوانب القوة وتعزيزها، واستكشاف جوانب الضعف ومعالجتها والتي حين نكتشفها فيجب ألا نبررها أو نبحث عن أعذار لها أو أسباب لأن حجم الدعم الذي تشهده مرحلة التعليم الجامعي يعتبر غير مسبوق ويعيش أفضل سنوات تاريخه. ونتيجة لذلك وخلافاً لتجارب دول العالم الأخرى؛ فإن التحدي الأبرز الذي يواجه مسيرة التعليم العالي في المملكة هو توطين وتهيئة جيل من الكفاءات القيادية القادرة على توظيف تلك الموارد بما يحقق بيئة إيجابية فاعلة يتميز بها التعليم الجامعي، وأن تُمارس الكفاءات القيادية أدوارها الريادية المنوطة بهم، وأن يتداركوا تلك الفرصة الهائلة لتحقيق التطلعات المنشودة بإحداث نقلة نوعية تتواكب مع حجم الموارد المالية المتاحة لهذا القطاع، وهو الأمل الذي ينتظره كل مواطن غيور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي