من أجل مستقبل التعليم الجامعي (1 من 2)

حين الحديث عن المستقبل فإن النفس تتطلع لنتائج مفاجئة في السلبية أو في الإيجابية، وحين يخلو المقال عن ذلك فقد يعتبر مقالا نمطياً ليس فيه نظرة مستقبلية لأن المستقبل في نظر البعض يعتمد على المفاجآت وإن خلا منها فهو ليس مستقبلا بل استمرار للحاضر وربما امتداد للماضي. وعلى العموم فالنظرة العلمية هي أن المستقبل ليس ضربا من الكهانة أو التنجيم بل يعتمد على معطيات الحاضر ومؤشرات متراكمة في الغالب أنها ترسم مستقبلا لمن يملك البيانات الماضية والحاضرة ويستطيع أن يستخرج منها نظرة مستقبلية، وربما تقوم بها مؤسسات وربما يقوم بها أفراد، ولا شك أن العمل المؤسسي سيحمل رؤية مستقبلية أكثر دقة في الغالب من الاجتهادات الفردية، إلا أن قراءة المستقبل ليست خاصة بها فربما يسهم الأفراد من خلال تقديم تصوراتهم التي قد تساعد في فهم أعمق للعوامل الأكثر تأثيراً في مسيرة التعليم الجامعي ومستقبله لتصبح في النهاية أحد مكونات العمل المؤسسي في رؤية المستقبل.
والحديث عن مستقبل التعليم الجامعي يمكن تناوله من أبعاد كثيرة ومتعددة لكن هذا المقالة ستركز على ثلاثة أبعاد لها أهمية وأولوية ولأنها ذات شمولية تنطبق على جميع أنواع التعليم الجامعي، فأول تلك الأبعاد مبعثه ما تواجهه مؤسسات التعليم الجامعي من تحديات كبيرة تتزايد مع مرور الزمن وتكاد تعصف بجهود المخلصين القائمين على التعليم الجامعي، وما ذاك إلا لعظم خطورة هذه التحديات ولقوة فتكها وتأثيرها، مما يتطلب التعامل معها بمسؤولية متناهية، ومن أبرز تلك التحديات: الضعف المتزايد لمخرجات التعليم العام، ضعف قدرة استيعاب التخصصات المؤهلة لسوق العمل لأعداد الطلبة، مما نتج عنه اتجاه أعداد من الطلبة نحو تخصصات غير مؤهلة لسوق العمل، وكذلك ضعف كفاءة خريجي التعليم الجامعي، ونقص الكوادر المتميزة المتفرغة للتعليم الجامعي والتدريس. إذن ليس من خيار أمام تلك التحديات الحاضرة والمستقبلية سوى أن تقوم وزارة التعليم العالي بدعم الجامعات ودفعها للقيام بتصحيح شامل لبرامجها مستشعرة مسؤوليتها تجاه تلك التحديات ولتتماشى مخرجات برامجها مع متطلبات العصر واحتياجات التنمية، وأول تلك المتطلبات هو التركيز على اكتساب المعارف والمهارات اللازمة معرفياً وأدائياً والتدريب المكثف عليها، وأن تركز الجامعات في برامجها على التخصصات الوظيفية، وتسعى جميع برامجها لتغليب المصلحة العامة للوطن وأجياله على المصالح الفردية لبرنامج أو قسم أكاديمي؛ بحيث تكون هناك معايير للتخصصات والبرامج تلتزم بها جميع الجامعات، وألا يكون هناك أي تمايز في تلك المعايير بين الجامعات، بل كلها تسير وفق رؤية واستراتيجية شمولية مع بقاء المرونة في الإجراءات والتطبيقات، ويكون لدى الجامعات هدف قابل للتحقيق بأن تصبح نسبة مخرجات برامج البكالوريوس المرتبطة بسوق العمل على سبيل المثال لا تقل عن 70 في المائة من مجموع تخصصاتها. وجميع هذه المقترحات تتطلب من الوزارة – وليس الجامعات - مبادرة نوعية كأن تؤسس وحدة أو مركزاً خاصاً يقوم بالتنسيق المتواصل بين عدة وزارات وجهات حكومية ومؤسسات أهلية بحيث يكون لدى هذا المركز رؤية للأعداد التقديرية للخريجين والأعداد التقديرية للاحتياج الفعلي لهم في سوق العمل، وليكون دور الوزارة المواءمة بين الاحتياجات والمتطلبات لهاتين الجهتين، ولئن كانت هناك محاولات وتجارب محدودة بهذا الشأن؛ فإنه الآن وفي المستقبل القريب سيكون هذا المركز هو العامل الجوهري في تخفيف أو حل مشكلات البطالة والتأهيل وسد الاحتياج الوظيفي ورفع مستوى التنمية في المجتمع بكافة التخصصات الإنسانية والعلمية والصحية.
العامل الآخر في رسم مستقبل التعليم الجامعي وتحديد أفقه هو أن يتم إجراء الدراسات في كل جامعة لمعرفة وقياس الأداء الفعلي للخريجين من خلال أدوات علمية متنوعة، ومن أبرزها الاستبانة الدولية (NSSE) المخصصة لقياس مشاركة الطلبة ومنهم من هو على وشك التخرج، وأيضاً كالاختبارات التي بدأ يعقدها المركز الوطني للقياس والتقويم أو كالأدوات التي ترفعها الجامعات لهيئة الاعتماد الوطني بحيث تُستخدم نتائجها كمؤشرات لتقويم العملية التعليمية ومخرجاتها في كل جامعة في كل عام، وللمقارنة بين الكليات داخل الجامعة الواحدة أو بين أقسام الكلية الواحدة، أو للمقارنة الوصفية بين الجامعات السعودية؛ بحيث يكون ذلك كله بهدف واضح وهو لأجل التحسين المستمر للعملية التعليمية ومخرجاتها، وأن يتم باستخدام أدوات علمية ومؤشرات متنوعة كمية وكيفية بحيث تتواءم مع طبيعة التعليم التخصصي لتجمع بين الدقة والعمق والشمولية، كما تراعي تلك الأدوات اختلاف فرص التعلم المتاحة للطلبة باختلاف الجامعات، وأن نحذر من التعامل مع نتائجها على نحو تنافسي بين الجامعات بل يكون تحليل تلك النتائج داخل الجامعة نفسها وبين جامعة وأخرى لتبادل الخبرات، فلا تطالب جامعة ناشئة أن تكون مخرجاتها بمستوى تنافسي لجامعة بإمكانات عالية. وبناء على تنوع تلك الأدوات العلمية سيكون لدى الوزارة مؤشر تراكمي لتقييم مخرجات الجامعات في العملية التعليمية؛ مما سيقود إلى دفع الجامعات بشكل مباشر ومركّز نحو التغيير الحقيقي في نوعية مخرجاتها وليس في عدد خريجيها أو عدد برامجها وأنشطتها أو غير ذلك. فكما أن الجامعات مطالبة باستيعاب الطلبة فهي مطالبة بشكل أكثر إلحاحاً بتحسين مخرجاتها التعليمية، وكلما استخدمنا لغة الأرقام والبيانات التصنيفية الشمولية في تقييمنا للجامعات وتحليل مخرجاتها كانت قراراتنا مؤسسية ومنظمة وبالتالي تصبح أكثر جودة ونفعاً وأقل تكلفة وهدراً. ولربما يتاح للوزارة بعد ذلك حين تتوافر مثل هذه البيانات أن تربط دعمها الإضافي وتجعله مشروطاً بقدرة الجامعات على تحقيق تحسن واضح في مخرجاتها التعليمية على نحو دوري. بل سيتاح للوزارة أن تكون آلية تقديم الدعم الإضافي للجامعات وفق رؤية شمولية وإجراءات ومطالب محددة وواضحة وليست وفق اجتهادات فردية أو عمومية. فيصبح التطوير للعملية التعليمية وفق استراتيجية بنّاءة ومتدرجة ووفق احتياجات كل جامعة وظروفها وقدراتها المتاحة دون مفاضلة أو مقارنة جزئية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي