«ومن شر حاسد إذا حسد»
الحياة مدرسة واسعة النطاق متعددة المواد والفصول والطلاب والمعلمين والمتعلمين، ومهما قال الإنسان إنني استطعت أن أحتوي كل علومها تكشف له الأيام خطأ هذا المعتقد، ويبقى الإنسان في الحياة طالبا للمعرفة، مهما بلغت به درجاته العلمية وخبراته العلمية وتنوعت مدارسه العلمية والفكرية، وكل ما يتعلمه الإنسان في الحياة يجد لذة التعليم وثقافة الإبداع وروح التفاؤل وقمة العطاء والقدرة على مصارعة كل أنواع الصعاب وثقافات الناس ومقارعة كل الرجال وتحمل كل أنواع المعوقات والمحبطات والصدامات إلا أن أمرا واحدا يقف عنده الإنسان العاقل الرزين لا يجد معه علاجا ولا يجد له دواء ولا يأمل فيه أو منه مخرجا إلا بالابتعاد عنه بعد التعوذ منه، ذلك هو الحاسد الذي تعوذ الله منه بقوله - سبحانه وتعالى: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ".
إن هذه الاستعاذة الربانية من ''شر حاسد إذا حسد'' وارتباطها بكل أنواع الشر وجعلها واحدا من أهم أربعة شرور وتأكيد المصطفى - عليه الصلاة والسلام - جعلها جزءا من ورد الإنسان في صباحه ومسائه يوجب على كل إنسان يعيش أو يقترب ممن يملك صفة الحسد الابتعاد عنه بكل ما يملك من إمكانات ومسافات الابتعاد، لأنه لا دواء له أبدا، وهو أخطر من الأحمق حتى إن قالت العرب ''لكل داء دواء يستطب به.... إلا الحماقة أعيت من يداويها''. فإنني أقول لهم وبملء الفم والسمع والبصر إن الحسد أشد وأخطر من كل أنواع الأمراض والصفات الإنسانية والحمق أهون منه كثيرا، ولهذا جاءت الاستعاذة من شر الحاسد ومكره. لقد تأملت كثيرا في مواقف الكثير من العظماء وفي كل المجالات الفكرية والعسكرية والمدنية، وكل أنواع الأعمال والمواقف، ولم أجد أن هناك عاقلا واحدا نقل عنه التاريخ وأبقاه التاريخ ملء السمع والبصر في كل مواقفه البطولية بالقول والفعل والعمل إلا رأيته هاربا بكل ما يستطيع من جهد وقوة تاركا خلفه كل مجد وجهد ورزق وعمل من الحاسد هرب الطيب من المجذوم أو أكثر من ذلك بكثير, لقد استوقفني الكثير من الأحداث التي رأيت فيها الرجال المميزين يتركون أعمالهم وجهودهم ومصالحهم وأموالهم، وربما أهلهم وينفرون من حسد الحاسد، ولعل في بعض المواقف التي أستذكرها لحظة كتابة هذا المقال هي القصة المشهورة للشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي- رحمه الله- في قصيدته التي ما زالت مع أخواتها تبقيه بيننا حيا حتى إن مات جسدا منذ أكثر من ألف عام ''توفي نحو عام 354 هجري الموافق عام 965 ميلادي''، التي يقول فيها:
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا
فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ
لقد جسد أبو الطيب المتنبي موقفه من حاسديه في مجلس سيف الدولة وكيف أن هذا الحسد هو الدافع له لترك صحبة سيف الدولة مع ما بينهما من علاقة قوية، وذلك حماية لنفسه من كيد الكائدين وعمل كل حاسد وسبق له أن أكد في أكثر من قصيدة موقفه من شر الحاسدين وبطانة السوء ومنها قوله:
سوى وجع الحساد داوِ فإنهُ
إذا حل في قلبٍ فليس يحول
ولا تطمعن من حاسدٍ في مودةٍ
وإن كنت تبديها له وتنيلُ
وإنا لنلقي الحادثاتِ بأنفسٍ
كثير الرزايا عندهن قليلُ
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراضٌ لنا وعقولُ
وهو هنا يؤكد أن داء الحسد لا يمكن أن يعالج، لأنه إذا نزل في القلب لا يتحول عنه، وفي مثل موقف أبو الطيب قال الكثير ممن تعرضوا لأضرار الحسد ومنهم في عصرنا الحاضر الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - في مشاكله مع الحساد حيث يقول:
بيني وبينك ألف واش ينعب
فعلام أسهب في الغناء وأطنب
صوتي يضيع ولا تحس برجعه
ولقد عهدتك حين أنشد تطرب
بيني وبينك ألف واش يكذب
وتظل تسمعه .. ولست تكذب
إلى أن اعترف بأنه لا يستطيع أن يدخل مثل هذه المعارك الفاسدة بكل أسلحتها وأدواتها ولهذا أعلن استسلامه بقوله:
قل للوشاة أتيت أرفع رايتي
البيضاء فاسعوا في أديمي واضربوا
هذي المعارك لست أحسن خوضها
من ذا يحارب والغريم الثعلب
ومن المناضل والسلاح دسيسة
ومن المكافح والعدو العقرب
تأبى الرجولة أن تدنس سيفها
قد يغلب المقدام ساعة يغلب
في الفجر تحتضن القفار رواحلي
والحر حين يرى الملالة يهرب
وأكد - رحمه الله - أن الحر حين يرى الملالة يهرب، وهذا الهروب هو العلاج الناجع والوحيد في وجه أي داء حسد وحاسدين، أعاذنا الله وإياكم ''من شر حاسد إذا حسد'' وجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم.
وقفة تأمل :
غــرتـني الأيـام بقـبالها يــوم
واثـر النكـوفه عـند الأيام عجله
جـتـني لياليها عـلى دف ونـغـوم
واثـر الليـالي بالغرابيل جـزله