الحكومة .. حين تعيد هندسة إجراءاتها الإدارية

في هذا العصر الإلكتروني، تخيل أن بعض الجهات الحكومية لا تزال تطلب منك خطاب تعريف بالراتب، وخطاب تعريف من العمدة، مع ست صور شمسية (4×6)، وصورة من بطاقة الهوية الوطنية، وصورة من سجل الأسرة، وفاتورة الكهرباء وفاتورة المياه، كل ذلك في ملف أخضر علاقي، تناوله بكل احترام لموظف ''متقاعس'' لا يتجاوب معك أو ينظر إليك، لانشغاله بتناول وجبة الإفطار، وتصفح رسائل هاتفه الجوال!
ومع الأسف، أن ذلك المشهد لم يتلاش من بعض جهاتنا الحكومية، لذلك سألت بعض الحاضرين على هامش إحدى الفعاليات عن الجهات الحكومية التي يريد كل واحد منهم أن يعيد هندسة عملياتها الإدارية (الهندرة)، وجاءت إجاباتهم متفاوتة وفق الجهات التي يتعاملون معها، فمنهم من طالب بهندرة ''الجمارك''، إلى من طالب بهندرة جهات أخرى كـ ''الموانئ''، و''الزراعة''، و''البلديات''، و''الصحة''، وهي جهات تمر فيها وتيرة العمل ببطء شديد.
لكن في المقابل هناك جهات نجت من مطالب أولئك الحاضرين بإعادة هندسة إجراءاتها الإدارية، ومنها وزارات: الداخلية، العمل، التجارة، والعدل، ذلك أنها بادرت منذ أعوام قليلة إلى تنفيذ مشروع ''الهندرة''، ضمن مشروعات أخرى، كفلت توفير خدمات إلكترونية حازت رضا العملاء.
وحقيقة، فإن البيروقراطية عندنا لا تعالج إلا بثلاث إعادات: إعادة صياغة الأنظمة (القوانين)، وإعادة هيكلة الأجهزة الحكومية، وإعادة هندسة عملياتها الإدارية، وهذه المشروعات الكبرى يترتب عليها انتقاء أجدر الموارد البشرية التي تدير مؤسساتنا، وتشغلها مع توفير الموارد المالية والمادية بصورة فاعلة.
البنك الدولي يكشف لنا في تقرير ''سهولة ممارسة الأعمال'' أن السعوديين يحتاجون إلى 30 معاملة، و191 يوما (أي أكثر من ستة أشهر!) لبدء نشاطهم التجاري.
من بين 189 دولة، يضع التقرير السعودية في المرتبة الـ26 عالميا والثانية عربيا، ويتم تقييم هذه الدول على أساس عشرة معايير تشمل الإجراءات الحكومية الخاصة ببدء النشاط التجاري، ومنها استخراج تراخيص البناء، وتوصيل الكهرباء، وتسجيل الملكية، والحصول على الائتمان، وحماية المستثمرين، ودفع الضرائب، والاستيراد، وإنفاذ العقود، وتسوية حالات الإفلاس.
إذن، الحل لمعالجة البيروقراطية العقيمة عندنا يكمن في إعادة هندسة العمليات الإدارية (الهندرة)، وهي تعرف بأنها: ''إعادة نظر أساسية وإعادة تصميم جذرية لنظم وأساليب العمل لتحقيق نتائج هائلة في معايير الأداء العصرية مثل التكلفة، السرعة، والجودة ومستوى خدمة العملاء''.
وأسهم برنامج الحكومة الإلكترونية (يسِّر) في إعادة هندسة الإجراءات الإدارية لدى الجهات المشاركة في البرنامج، إذ إن هناك علاقة متلازمة بين ''الهندرة'' و''تقنية المعلومات''، خاصة إذا علمنا أن المفكر الإداري (مايكل هامر) الذي شارك في وضع مفاهيم وأساليب إعادة هندسة الإجراءات الإدارية، كان بروفيسورا في الحاسب يعمل في معهد ماساشوستس للتقنية (MIT).
محليا، نجد أن ''وزارة العمل'' استطاعت أن تعيد هندسة الكثير من إجراءاتها بهدف تسريع وتحسين مستوى الخدمات المقدمة للعملاء، وتقديم خدمات إلكترونية، أسهمت بطريقة مباشرة في الحد من حالات الفساد أو التلاعب التي تحدث عن طريق الموظفين أو الوسطاء.
كما أن ''وزارة الداخلية'' قامت بتنفيذ مشروع ''هندرة'' في الجوازات، ما نجح في تحويل خدماتها إلى خدمات إلكترونية من خلال نظام ''أبشر''، وكذلك الأمر تحقق بالنسبة إلى ''الأحوال المدنية''، التي كانت أولى قطاعات الوزارة في التطور، بل إن الوزارة (الأحوال المدنية) تمكنت من إنهاء مشروع ربط إلكتروني بينها وبين وزارة الصحة لتسجيل حالات الولادة والوفاة، إضافة إلى الربط الإلكتروني بين وزارة الداخلية (الأحوال المدنية) ووزارة العدل لتوثيق حالات الزواج والطلاق دون اضطرار العميل إلى زيارة الأحوال المدنية لتوثيق حالات الولادة والوفاة والزواج والطلاق، إنما يراجع فقط للحصول على الوثيقة المطلوبة التي تكون جاهزة في انتظاره.
كما أن ''وزارة التجارة والصناعة'' قامت على يد وزيرها المتخصص في مجال تقنية المعلومات بإعادة هندسة العديد من إجراءاتها، ومنها إجراءات استخراج السجل التجاري، إضافة إلى إجراءات تسجيل ''العلامة التجارية'' حيث تمكنت الوزارة من تقليص الزمن المستغرق لإنهاء هذه العملية من 240 يوما (ثمانية أشهر) إلى سبعة أيام، أي تخفيض 97 في المائة من الزمن المستغرق.
كما أن ''مصلحة الزكاة والدخل'' تعكف على الارتباط الإلكتروني بينها وبين وزارة العمل، ووزارة الداخلية، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة التجارة والصناعة لرصد تحركات أصحاب التراخيص والسجلات التجارية، ومعرفة عدد فروع أنشطتهم، وعدد عمالتهم، ليتم احتساب الزكاة بشكل دقيق منعا للتلاعب، وفي حال رفض أصحاب الأعمال تسديد مستحقات الزكاة أو التأخر في تسديدها، ستبادر ''المصلحة'' مع الوزارات الأربع المذكورة بإيقاف الخدمات الإلكترونية عنهم.
أما وزارة العدل فقد تمكنت من إعادة هندسة العمليات القضائية من خلال تنفيذ ''مشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء''، الذي قامت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بوضع خطتيه الاستراتيجية والتشغيلية.
فقد تمكنت وزارة العدل حتى الآن من هندسة إجراءاتها في محاكم الدرجة الأولى، ومحاكم الاستئناف، ودوائر التنفيذ، وكتابة العدل الأولى، وكتابة العدل الثانية، ومكاتب المصالحة، وقريبا ستتمكن الوزارة من إعادة هندسة إجراءات المحكمة العليا، كما نجحت الوزارة في تحويل ''قضاء التنفيذ'' إلى عمل إلكتروني متكامل، من خلال عدة مبادرات، منها:
- ربط إلكتروني بين ''قضاة التنفيذ'' وبين وزارة الداخلية ووزارة التجارة والصناعة ومؤسسة النقد وهيئة سوق المال وهيئة الاستثمار ووزارة الإسكان، لتسريع إنجاز القضايا المطلوب تنفيذها بالقوة الجبرية، من خلال منح القضاة صلاحيات حسم المبالغ واستقطاعها والحجر على أموال المدينين إلكترونيا دون الحاجة إلى معاملات رسمية بين تلك الجهات تستغرق وقتا طويلا تضيع فيه الحقوق.
- ربط إلكتروني بين ''قضاة التنفيذ'' والمؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، لتوفير بيانات رواتب المتقاعدين للقضاة، للاستعانة بها في قضايا الطلاق وإجراءات تحديد النفقة، ولا سيما بعد رصد القضاة مماطلة في تنفيذ أحكام النفقة.
- ربط إلكتروني بين ''قضاة التنفيذ'' ووزارة التربية والتعليم لتوفير معلومات المعلمين والمعلمات ومعلومات الطلاب في قضايا الأحداث.
وإضافة إلى كل ذلك، فهناك ربط إلكتروني بين ''وزارة العدل'' ووزارة الصحة والداخلية والتجارة والصناعة ومؤسسة النقد العربي السعودي للتبليغ عن الوفاة إلكترونيا حفاظا على أموال وأملاك المتوفين، ومنعا لتغيير معلوماتهم أو التحايل من قبل الورثة، وتسهيلا لعملية توزيع الإرث على الورثة المستحقين.
تلك كانت أمثلة لبعض حراك ''الهندرة'' في قطاعنا الحكومي، لذلك إذا كانت الجهة التي تعمل فيها أو تديرها تشهد تدنيا في رضا العملاء، فإنكم في أمس الحاجة إلى إعادة هندسة الإجراءات الإدارية، اهدموا إجراءاتكم، وأعيدوا بناءها من جديد بصورة صحيحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي