دنِقي !!
قالت الكلمة عابراً إذ سقط غطاء قارورة "الايفيان" تحت الطاولة في الظلام ، وآثرت صديقتنا أن تغطي القارورة بكوب زجاجي فارغ إلى أن تجده ، فضحكنا لأن اللفظة قديمة قدم جبال تهامة وعريقة عراقة أهل الحجاز .. تدحرج الغطاء البلاستيكي من تلقاء نفسه ليعود أدراجه إلى جوارها فتلتقطه كالفريسة وتعيده كالتاج فوق القارورة بلا "تدنيـق"!!
"دنِّقي" ليست لفظة هيروغليفية ولا كلمة عربيزي (عربي انجليزي) وليست لغة قبائل الزولو ولا حوار التاميل .. فكلمة (دنِقّ) ؛ د ن ق يدنُق دنُوقاً أي يتتبع صغائر الأمور وتفاصيلها، والشخص المُدَنِّقُ هو المستقصي، قال الحسن : لا تُدَنِّقُوا فَيُدَنَّقَ عليكم، و دَنَّقَ البخيلُ أي بالغَ في التضييق في النفقة، كما ذُكر في معجم مختار الصحاح.
"دنقي" هذه من الكلمات التي كنا نؤمر بها لنجثو مع بعض السعادة والشقاوة على أطرافنا الأربعة فنجوب أنحاء بلاط البيت بالممسحة المتمرغة بالصابون كل نهاية أسبوع للمشاركة في تنظيف البيت وتصفيط "الكرويتا" ثم تعلم فنون إعداد وجبة الغداء العامرة مع أمي..
"بعض كلمات اللهجة الحجازية تتشابه في نحوها وصرفها وبعض من مفرداتها مع كلمات عربية فصحى قديمة، وأخرى معربة، كما ورد في الويكيبديا، ويمكن القول بأن اللهجات العربية كان لها بعضاً من التأثير على بناء اللهجة الحجازية كونها مثل باقي اللهجات العربية لهجة شعبوية . وذلك لوجود المدينتين العظيمتين بالاسلام مكة والمدينة وهَوِي أفواج من علماء الدين وطلاب العلم والصالحين منذ فجر الاسلام من شتى الأمصار العربية والإسلامية، عدا عن تأثير اللغة التركية نظراً للحكم العثماني الذي دام لأربعة قرون في المنطقة.
وتعتبر اللهجة الحجازية الحضرية من أبسط اللهجات لسهولة فهمها من قبل جميع شرائح المجتمع السعودي والخليجي. وعندما يطلق مصطلح اللهجة الحجازية بدون تقييد فإن المقصود بها غالباً اللهجة الحجازية الحضرية، بها كلمات كثيرة تم تحريفها بفعل تمازج الشعوب وتنقل الحضارات و تجاربها وإستحداث مصطلحات تتماشى مع الحدث والآنية" .
لا زلنا نردد كلمات مثل "هادا" "وأندُّر" ،"ازهموا عليه" و"إيشبك "... في عباراتنا اليومية ، ولازلتُ أذكر أمثالاً شعبية مثل "خشوني لاتنسوني ولِّعوا الشمعة وشوفوني" ، "إهْري وانكتي ياجارة وأنا ثابتة زي العمارة" و" أكنس بيتك ورشُّه ماتدري مين يخُشه"، وأكثر ماأحفظه وأردده ماكانت تقوله أم زوجي رحمها الله إن استوحشت إبنها؛ "بيت الدرج يسّلِم على باب السطوح اللي يجي يجي واللي يروح يروح"... وغيرها الكثير من الأمثال المتداولة التي لم تندثر ...
هكذا هي الكلمات الدارجة أو شبه المندثرة لها أصّلٌ ومنشأٌ وحكاية ... يكشف الغبار عنها "أهل أولّ" لتعبر عن الأصالة والعراقة ولتجرّ معها ذكريات جميلة عن بيت حارة البحر وعمارة الملكة وشارع قابل ولهو الصغار وحبات الشريك الحار والزيتون الأسود والجبنة البيضاء التي كانت أقصى ما نتمناه بعد فسحة في سوق " الندى" وسط البلد في جدة.
الليلة بالذات جرفني حنين هادر لمجلس (الستات الكبّار وحكاوي الستات الكبّار) قدراً وقيمة لأننا تعلمنا معهم ومنهم معنى الاحترام والتقدير. فقط من أجل هذه الكلمة ... مرت الذكريات كشريط سينمائي سريع في مخيلتي وداعبت أنفي رائحة كأس مبخرة بالمستكة يملؤها ماء بارد يروي الظمأ عندما قالوها... وتبسمتُ كطفلة تنظر إلى وجه أمها مشتاقة وهي تمشط لها الشعر وتجدلُّ الضفائر لتربط النهايات بشريطة بيضاء ثم تطبع قبلة على الجبين وتكملها بدعوة استودعتكِ الله.
لازال البيت هناك في منطقة البلد ... ونحمد الله أنّ ليس في جدة هدد أو توسعة ! ولا زالت الذكريات تنبض في الشرايين ... ولا زلت أحنُّ إلى خبز أمي وتتبع التفاصيل ... فلا تُدَنِّقُوا فَيُدَنَّقَ عليكم.
شكراً صديقاتي على حفلة الذكريات،،