الميزانية خلال 10 سنوات.. هل زال شبح الدَّين العام فعلا؟
لا يزال الاقتصاد السعودي يمر بمرحلة خاصة من الازدهار، والميزانية العامة للدولة تحقق فوائض قياسية، فقد تصاعدت الفوائض الفعلية من 45 مليارا عام 2003م، حتى وصلت إلى 206 مليارات عام 2013م.
وهذا حقق مركزا ماليا قويا جدا، خاصة مع استمرار انخفاض الدَّين العام من 675 مليار ريال عام 2003م، إلى 75 مليارا عام 2013م، وهذا يشير إلى عمل منظم طوال العشر سنوات الماضية من أجل خفض نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي.
فبعد أن كانت 94 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، البالغ 695 مليار ريال في عام 2003م، وصلت النسبة إلى 2.7 في المائة، وهذا نجاح مذهل بكل المقاييس.
لكن يجب الانتباه، أن مرد ذلك إلى عنصرين، الأول سعي الدولة بجهد كبير إلى سداد الدَّين العام سنويا، دون إرهاق الميزانية العامة للدولة، وكذلك إلى النمو الذي حققه الناتج المحلي، الذي بلغ في عام 2013م قيمة 2.764 تريليون ريال، وهذا قفزة قياسية.
من الملاحظ في الميزانية العامة للدولة، ومنذ عام 2003م، الاتجاه المستمر نحو زيادة القِيَم الفعلية، عن القِيَم المُقدّرة بمتوسط 25 في المائة، وإذا كان يمكن تبرير هذه الزيادة المستمرة في جانب الإيرادات، فإن استمرار الزيادة بهذه الوتيرة في جانب المصروفات، يحتاج إلى مزيد من الضبط، خاصة أن الإيرادات تعتمد وتقدر.
وهنا الفرق بين الإيرادات والمصروفات في القطاع الحكومي؛ فالميزانية إذا صدرت تمثل تشريعا وقانونا للصرف، دون أي اعتبارات للإيرادات التي تحققها الدولة، فلو أن الإيرادات نقصت عن المُقدّر، لأي سبب، فإن المصروفات تظل واجبة الدفع، إلا في حالات نادرة.
ولهذا تتورط الدول في الدَّين العام، فاعتماد المصروفات يجعل من الواجب على المالية العامة للدول، توفير الموارد اللازمة لها، لو كان بالاقتراض الداخلي أو الخارجي.
وإذا كنا دائما نسعد بزيادة المصروفات، ولا نهتم كثيرا برقم الإيرادات، فإن الزيادة المستمرة في الفرق، بين المُقدّر والفعلي لها، يظل أمرا مقلقا ويجب التصدي له؛ ذلك أن المتوقع خلال عام 2014م، أن تكون المصروفات الفعلية قريبا من حاجز تريليون ريال، وهذا رقم ضخم جدا على دولة ناشئة كالمملكة، تعتمد على مصدر وحيد لتمويل كل هذه المصروفات، وقد لا يُبرّر واقع المشاريع والخدمات التي تصل للمواطن، ذلك الإنفاق الضخم المتوقع.
لكن، لنعود مرة أخرى، لنتفهم أسباب الزيادة المستمرة في المصروفات الفعلية، عن المُقدّرة طوال السنوات، وبنسبة متقاربة دائما. في اعتقادي أن المشكلة تعود إلى الطريقة القديمة جدا للميزانية العامة للدولة، وطريقة إعدادها؛ فلا تزال تعد على أساس متوسطات الإنفاق، وعلى بنود وأبواب، وليس على برامج.
وبالرغم أن العالم، قد وصل إلى أنواع متطورة من نماذج الميزانية، فلا تزال المملكة متأخرة في هذا الشأن، بطريقة لا تبررها قوة الميزانية وضخامة الإنفاق.
أضف إلى ذلك، أن المشاريع تعتمد دائما على أساس دراسة غير جيدة للمواصفات، والذي يحدث عادة هو أن تتعثر المشاريع، بسبب عدم مطابقة المواصفات للواقع، فتبدأ الجهات الحكومية في تعديل المواصفات، وطلب اعتمادات إضافية.
وهذا التصرف يجب أن يحسم من قبل وزارة المالية، فلا بد أن تبذل الجهات الحكومية جهودا أكبر، من أجل الوصول إلى تقديرات صادقة عن حجم الاحتياجات الفعلية للمشاريع، فقد نقبل ببعض الزيادة الطفيفة في المصروفات نتيجة إلى ارتفاع الأسعار والضغوط التضخمية، لهذا فإن الزيادة المتوقعة في المصروفات الفعلية عن المصروفات المُقدّرة، يجب أن تتأرجح دائما مع مستوى الأسعار، وهي عادة نحو 3 في المائة.
لكن مع كل ذلك، يُحسب للاقتصاد السعودي، أنه رغم ارتفاع وضخامة الإنفاق من عام إلى عام، لا تزال الدولة قادرة على السيطرة على مستويات التضخم، فهي لم تتعد 4 في المائة في المتوسط، وهذه نتيجة مقبولة، في ظل مشكلة البطالة، التي لم يزل الاقتصاد السعودي يعانيها.
لكن يجب ألا تأخذنا الغبطة بالأرقام التي تعلنها الميزانية، فننسى أن دور رجال الأعمال والقطاع الخاص لا يزال محدودا جدا، وأن القطاع الخاص لا يزال يعتبر عالة على الدولة، وقدرتها على توزيع الدخل في شكل مشاريع عملاقة، تحقق لهذا القطاع أرباحا ضخمة فعليا.
لذلك يجب أن يمارس هذا القطاع دوره الحقيقي في التصنيع، مستفيدا من الوضع الراهن، حتى يحقق في المستقبل فرصا وظيفية أكبر، وبالتالي تستمر عجلة النمو في التقدم، حتى لو تأثر قطاع النفط.
من الملاحظ، بشكل عام، أن التعليم يمثل أهم عنصر من عناصر المصروفات في الميزانية العامة للدولة، حيث قفز من 57 مليارا عام 2003م، ليصل إلى 210 مليارات ريال عام 2014م.
والسبب يعود جزئيا، إلى أن هذا القطاع هو أكبر موظّف للمواطنين في المملكة، ثم يليه القطاع الصحي، حيث قفز من 23 مليارا عام 2003م إلى 108 مليارات عام 2014م.
وهذه المؤشرات جميعا، تسعد المواطن حتما، لكنها تضع الكثير من الأسئلة حول حجم الإنجاز الفعلي، وهل فعلا تغير مناخ العمل، ورضي المواطن عن الخدمات من عام 2003م حتى عام 2014م. للأسف، هذا السؤال الأخير، لا يمكن لأرقام الميزانية أن تجيب عنه.
وخلاصة القول، أن المصروفات العامة والضخمة للدولة، التي تقترب رويدا رويدا من حاجز التريليون، لا تزال تعتمد على النفط، وهذا يشكل خطرا حقيقيا على الاقتصاد السعودي.
ولا يوجد حل في الأفق، لكن في اعتقادي، أن خطر الاعتماد المتزايد على النفط مع ارتفاع حجم المصروفات بشكل لافت، لا يقل خطرا عن زيادة حجم الدَّين العام.
نعم لقد نجحنا في خفض حجم الدَّين العام، لكننا نفشل دائما في ضبط المصروفات، مع عدم توجه الدولة بشكل جدي للصناعة، لذلك فإن أي تعثر في سوق النفط- لا سمح الله- قد يعيد لنا شبح الدَّين العام، كأنه لم يتزحزح.
لا بد أن نعي هذه الحقيقة، ونحن نصفق بكل قوه للميزانية وانخفاض الدَّين العام حتى مستوى 2 في المائة.