ميزانية متوازنة بتحديات تنموية

أعلنت الحكومة السعودية بالأمس القريب عن ميزانيتها للعام المالي المقبل 2014 بجانبين متوازيين للإيرادات والنفقات التي بلغت 855 مليار ريال لكل جانب، ومثلت زيادة قدرها 3 في المائة بجانب الإيرادات عن الإيرادات المقدرة في ميزانية العام المالي الحالي 2013 وزيادة قدرها 4 في المائة في جانب الإنفاق.
الميزانية الجديدة للعام المالي القادم حملت في جعبتها كديدن الميزانيات السابقة الخير الوفير للوطن والمواطن، وبالذات في تركيزها على أوجه إنفاق ستسهم بفعالية في تنمية الإنسان السعودي، والتطوير من مهاراته وقدرتها الشخصية والعلمية والعملية. وما يؤكد على ذلك استحواذ قطاعي التعليم بمفهومه الواسع والشامل "التعليم العام والتعليم العالي وتدريب القوى العاملة" والصحة وخدمات التنمية الاجتماعية على نصيب الأسد من إنفاق الميزانية، حيث قد خصص لهذين القطاعين مبلغ وقدره 318 مليار ريال أو ما يعادل نحو 37 في المائة من إجمالي إنفاق الميزانية، مما يؤكد على إصرار الدولة وعزمها الأكيد على الاستمرار في سياستها الرامية إلى تنمية الإنسان السعودي بتقديم التعليم المناسب له وتوفير الخدمات الصحية الملائمة، باعتباره محور التنمية ومرتكزها الأساسي.
وبطبيعة الحال إن تركيز الميزانية العامة للدولة للعام المالي القادم في الإنفاق على قطاعي التعليم والصحة، لم يغفل إعطاء الاهتمام الكافي للقطاعات والأنشطة الاقتصادية والتنموية الأخرى، وبالذات التي لها علاقة بالخدمات الأساسية التي لها مساس مباشر بحياة المواطن السعودي اليومية، مثل الخدمات البلدية، والتجهيزات الأساسية والنقل، بما في ذلك المياه والزراعة والصناعة والموارد الاقتصادي الأخرى، حيث بلغ إجمالي ما خصص من الميزانية للإنفاق على تلك القطاعات مبلغ 166,6 مليار ريال أو ما تعادل نسبته نحو 19,5 في المائة من إجمالي إنفاق الميزانية.
وبتوقع الميزانية الجديدة أن ينخفض حجم الدين العام في نهاية العام المالي الحالي 2013 إلى نحو 75,1 مليار ريال والذي يمثل أقل من 2,7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة للعام نفسه مقارنة بمبلغ 98,8 مليار ريال بنهاية العام المالي الماضي، سيمكن الدولة من إعادة توجيه الخدمات التي تدفع على الدين وضخها في النشاط الاقتصادي للصرف على المزيد من مشاريع التنمية الاقتصادية التي تعمل على التحسين من المستوى المعيشي للمواطن السعودي.
دون أدنى شك أن الميزانية العامة للدولة للعام المالي القادم حملت في طياتها، كما أشرت الخير الوفير للوطن والمواطن على حد سواء، ولكن على الرغم من ذلك فإن المالية العامة للدولة لا تزال تواجه بالعديد من التحديات وبالذات المرتبطة بقدرتها على مواكبة الإنفاق المالي الضخم في كل عام الذي يخصص للمشاريع التنموية المختلفة، في ظل استمرار الاعتماد على إيرادات النفط كمصدر رئيس للدخل القومي، حيث على سبيل المثال قد شكلت إيرادات النفط من إجمالي الإيرادات المالية المتوقع تحقيقها في العام المالي الحالي 2013 نحو 90 في المائة.
إن استمرار اعتماد المالية العامة للدولة على إيرادات النفط كمصدر رئيس، سيشكل آجلاً أم عاجلاً مشكلة اقتصادية وتنموية، ستحد من قدرة الدولة المالية في الاستمرار على انتهاج سياسة إنفاق توسعية، وما يؤكد على ذلك ونتيجة للتذبذب في أسعار النفط العالمية والكميات هذا العام، انعكس ذلك سلباً على العديد من المؤشرات الاقتصادية وعلى الانخفاض في الإنفاق الحكومي، حيث على سبيل المثال هناك انخفاض في النمو الاقتصادي الذي يقدر بنحو 3.35 في المائة مقارنة بالتقديرات السابقة بنحو 5.1 ومقارنة بنمو العام الماضي، وذلك بسبب التأثير السلبي لقطاع البترول، أنه يعتمد على الصادرات للخارج، وليس على نشاط الاقتصاد المحلي.
من هذا المنطلق فإن الدولة تعول كثيراً على تنمية الإيرادات والصادرات غير النفطية "التي يتوقع لها أن تصل هذا العام إلى نحو 189 مليار ريال"، بما في ذلك تنويع مصادر الدخل القومي بهدف تقليل الاعتماد بقدر الإمكان على إيرادات النفط كمصدر رئيس للدخل القومي، خاصة في ظل عدم استقرار أسعار النفط العالمية والطلب على النفط الذي كما هو معروف تحكمه عدة اعتبارات من بينها معدلات نمو الاقتصاد العالمي ومستوى المخزونات العالمية من النفط والعوامل الجيوسياسية والمضاربات في الأسواق وغيرها من العوامل.
للخروج من مأزق الاعتماد على موارد النفط كمصدر رئيس للدخل القومي، فإن الأمر يتطلب الاستمرار في تنمية الصادرات غير النفطية وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية الذي وصلت معدلات نموه إلى 5.5 في المائة خلال هذا العام.
كما أن الأمر يتطلب اعتماد استراتيجية حكومية متوسطة إلى طويلة المدى للتخارج من الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للإيرادات العامة للدولة، والبحث بجدية عن مصادر دخل بديلة لإيرادات النفط، حيث نتمكن من الموازنة بين الإيرادات النفطية والأخرى غير النفطية، وبالذات في ظل الاكتشافات التجارية المحتملة للنفط والغاز الصخري على مستوى العالم.
دون أدنى شك أن نمو الصادرات غير النفطية ونمو القطاع الخاص بنسبة تفوق النمو في القطاع الحكومي وأيضاً تفعيل مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي التي تبلغ نحو 58 في المائة، فإن جميعها أمور محفزة للبحث عن البدائل للنفط، ولكنها ليست كافية في ظل غياب وجود استراتيجية اقتصادية ومالية واضحة للسنوات المقبلة قابلة للقياس، يمكن من خلالها تعزيز وترسيخ مفهوم تنويع مصادر الدخل القومي والتخارج من الاعتماد على النفط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي