من أجل مستقبل التعليم الجامعي (2 من 2)

سبق الحديث في المقال السابق عن بعدين مهمين في رسم مستقبل التعليم الجامعي وهما ضرورة إجراء تصحيح شامل لبرامج مؤسسات التعليم الجامعي لتركز في معظمها على البرامج الوظيفية وما يتطلبه ذلك من ضرورة إنشاء مركز متخصص للتنسيق بين الجهات المعنية والمواءمة بين برامج الجامعات ومتطلبات سوق العمل، والبعد الثاني هو إجراء دراسات واختبارات لقياس أداء الخريجين وكفاءتهم بهدف تحسين العملية التعليمية وليس بهدف التنافس بين المؤسسات الجامعية. أما البعد الثالث والأخير في هذا المقال فهو ذو أهمية بالغة لأن له دوراً مؤثراً في رسم طبيعة التعليم الجامعي خلال الفترة المقبلة، وهو ما يتعلق بتفعيل التقنيات الحديثة بشكل منهجي في كل جامعة وكذلك بين الجامعات، خاصة مع تقنيات التواصل المتطورة التي هي عامل مؤثر يمكن أن تجعل التعليم أكثر حيوية وفاعلية وأقل تكلفة وأكثر ضبطاً، كما أن هذا البعد يجعل الجامعات جزءاً لا يتجزأ من واقع المجتمع كأفراد ومؤسسات وليست منعزلة في بيئة ساكنة، بل يجعل للجامعة الريادة في أسبقيتها باستخدام تقنيات تعليم متطورة وفاعلة، ومن هنا يتعين على الوزارة أن تقوم بتوجيه وتكثيف الدعم للتعليم الإلكتروني داخل الجامعات والتنسيق بينها ومطالبتها بتحديد آلية ليس لمجرد ''استخدام'' التقنية في التعليم؛ بل بهدف ''استثمار'' الأدوات والتقنيات والمعامل الحديثة بما يضمن تحسين العملية التعليمية بكفاءة. وليس وجود جامعة إلكترونية يجعلنا نصرف النظر عن تطوير التعليم الإلكتروني داخل الجامعات؛ فموجة التعليم الإلكتروني جعلت أعداد الطلبة في جامعة فنيكس على سبيل المثال ترتفع من 25 ألفا تقريباً في عام 1995 لتصل في عام 2010 إلى 455 ألفت، ومع ذلك فالجامعات الأمريكية بارزة في استثمار التقنيات الحديثة في مجال التعليم مما يؤكد دور التقنية كعامل مؤثر في رسم مستقبل التعليم الجامعي ونوعيته، ولذا يبرز الاحتياج إلى تنمية الاتجاه داخل الجامعات ''لاستثمار'' أحدث التقنيات الحديثة في العملية التعليمية وضبط جودتها ورعاية مشاريع نوعية لتصميم محتويات تعليمية إلكترونية ذات جودة عالية في أساليبها الفنية والتعليمية. إن التحديات القائمة للعملية التعليمية من حيث كثرة الجامعات السعودية وتزايد أعداد الطلبة وضعف مواكبة ذلك باستقطاب أو تعيين أعضاء هيئة التدريس مميزين ستجعل مخرجات بعض الجامعات على المحك، وقد تؤدي إلى ضعف الثقة بها؛ وهنا يأتي العامل التقني كأحد أهم الحلول العملية والاستثمارية لضمان الحد الأدنى من جودة التعليم الجامعي ونشرها كثقافة وممارسة لكل الجامعات بغض النظر عن مكان الجامعة أو تاريخ نشأتها أو قدراتها المالية أو الإدارية. وأحد الأمثلة المقترحة في هذا الشأن أن تستثمر الجامعات الموارد المتاحة بشكل متبادل فيما بينها فيستفيد الطالب أو الطالبة في أنحاء المملكة من محتوى معرفي تم تصميمه بأساليب تعليمية مميزة وفاعلة في جامعة ما لينتشر في الجامعات كلها، وأن يستفيد طلبة جامعة في شرق المملكة من كفاءة عضو هيئة تدريس في جامعة في غرب المملكة وهكذا، وأن يتاح لعضو هيئة التدريس أن يقدم خبراته التعليمية على مستوى المملكة فلا يكون تدريسه مقتصراً على جامعة ما ومقيداً بالحدود المكانية. بل يمكن لعضو هيئة التدريس المميز أن يقدم محاضراته بأساليب تقنية حديثة في أكثر من جامعة وبكفاءة عالية وبتكلفة أقل. كما أن من الأولويات في ذلك تصحيح اتجاه أعضاء هيئة التدريس ومحاولة دعمهم لتغيير أنماط التعلم وتفعيل التعليم الإلكتروني بما يعكس انخراط الطلبة في القاعة الدراسية وفي دراستهم المقررات طيلة مرحلتهم الجامعية، حيث يشعر الطلبة بأنهم غير منفصلين عن واقعهم الحقيقي في التعامل مع التقنيات الإلكترونية الحديثة، كما لا يسوغ في هذا الوقت الحاضر أن يكون عدد من ''يستخدم'' التقنيات الحديثة ووسائل التعليم المبتكرة في القسم الواحد لا يتجاوز20 في المائة من منسوبي القسم، وحينما كان مجرد ''استخدام'' الحاسب الآلي في التدريس مطلباً في السابق؛ فإن الأمر الآن يجب أن يكون ''استثماراً'' حقيقياً للتقنية وليس مجرد ''استخدام'' في التعليم، وأن تقوم المراكز والعمادات المختصة بتقديم برامج توعوية لنشر ثقافة ''استثمار'' التقنية، وتذليل كل الصعوبات لتحقيق النقلة المعرفية التقنية في كل جامعة.
ولعل أبرز الشواهد على قوة الاستثمار في التقنية كمحور أساس في رسم مستقبل العملية التعليمية ما ينتشر في الأوساط العالمية لتجربتي ''موك'' MOOC's و''أكاديمية خان'' فهما مثالان بارزان لتقديم خدمات تعليمية متقدمة ومساندة للطلبة، ويشارك فيها أبرز الجامعات وأشهرها كجامعة هارفرد وستانفورد وماساتشوستس وغيرها الكثير، بل إن بعض المفكرين يتنبأ بأن مثل هذه النماذج ستتغلب على الجامعات التقليدية بل تهدِّد كفاءتها وبقاءها! ولعل هذين النموذجين يدفعان الجهات التعليمية ذات العلاقة إلى تبني مثلهما لإتاحتها لأجيالنا الشابة الحالية والمستقبلية التي تتفوق في التعامل مع التقنية أكثر من غيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي