دراسة: اهتمام كبير للسعودية بتأسيس مدن وتجمعات صناعية جديدة
مع ازدياد حدة المنافسة بين دول العالم نتيجة للانفتاح الاقتصادي، ومع تراكم الخبرات والتجارب تبين أنه لا يمكن لكل دولة أن تنتج كل شيء وأن تنافس في كل شيء. ووجد أن الحل الأمثل لمسألة انفتاح الأسواق وفقد مزايا الحماية السابقة هو في التخصص، فلكل دولة من دول العالم سلعة أو مجموعة سلع لا يمكن مجاراتها فيها نظراً لامتلاكها ميزة نسبية أو تنافسية فيها، حتى أكثر الدول تنوعاً في المنتجات نجد لديها تركيزاً "تخصصاً" في إنتاج سلعة ما ومشتقاتها، تركز عليها وتحاول تعظيم حجم الاستفادة منها. ومن هنا نشأت نظرية الميزة التنافسية للدول، التي تعتمد على تنافسية صناعة أو صناعات محددة في الدولة يهيأ لها المناخ الاستثماري المناسب للازدهار، وتنشأ تنافسية هذه الصناعة من تكامل وترابط جميع مكونات أنشطتها والأنشطة المساعدة لها بشكل هرم أو عنقود Cluster صناعي. ويحظى مفهوم التجمعات الصناعية، العناقيد الصناعية، في السنوات الأخيرة بقبول متزايد لدى واضعي السياسات التنموية في مختلف دول العالم، وتتبنى معظم دول العالم اليوم برامج تنمية التجمعات الصناعية في خططها التنموية لرفع مستوى نمو وتنافسية اقتصاداتها، متخلية بذلك نوعا ما عن برامج التنمية الاقتصادية التقليدية والتي تبين ضعف مردودها مقارنة بتكلفتها، حيث تسعى هذه البرامج لإعطاء الصناعات كافة نصيبها من الموارد المتاحة والمحدودة وتتطلع لتنمية وتنويع قاعدة الإنتاج لكل هذه الصناعات في وقت واحد. في المقابل فإن برامج وسياسات التجمعات الصناعية تتجه لتنمية تخصص محدد ضمن صناعة معينة، وتتعامل مع هذا التجمع والشركات المكونة له كنظام مترابط. وبتركيز برامج تنمية التجمعات على تخصص محدد في صناعة معينة تتمكن من تحديد عقبات واحتياجات هذه الصناعة بدقة أكبر، وهو ما يجعل القدرة على تجاوز العقبات وتوفير الاحتياجات أسهل، بالتالي تحقيق الأهداف التنموية المطلوبة. كما أن نمو هذه الصناعة سيستقطب ويولد صناعات أخرى وهو ما يوصل لهدف تنويع القاعدة الصناعية. وقد شجع نجاح تجربة التجمعات الصناعية في بعض الدول العديد من الدول الأخرى على الدخول في هذه التجربة، ففي آذار (مارس) 2007 أعلنت السعودية عن مبادرة برنامجها الوطني لتطوير التجمعات الصناعية، ويعتبر أسلوب التجمعات الصناعية إحدى أفضل وسائل التنمية الصناعية، وهو أحد أهم وأحدث أساليب رفع معدلات النمو الاقتصادية والاجتماعية الكلية، إذ يسهم بشكل كبير في نمو وازدهار المشاريع الصغيرة والمتوسطة وخفض معدلات البطالة والقضاء على الفقر وجذب الاستثمارات الأجنبية والتطوير التكنولوجي وزيادة الصادرات. وقد أثبت العديد من الدراسات أن الشركات التي تعمل ضمن تجمع صناعي تتمتع بكفاءة وتنافسية أعلى مقارنة بتلك المعزولة، ويوفر العمل ضمن التجمعات الصناعية العديد من المزايا للشركات، من أهمها خفض ملموس في تكاليف الإنتاج بصفة عامة ورفع الكفاءة الإنتاجية، نتيجة لقرب ورخص مدخلات الإنتاج الرئيسة "كالمواد الخام والعمالة". كذلك من المزايا توفير البنية التحتية المناسبة للصناعة وتسهيل الوصول للموارد المالية اللازمة، نتيجة لوجود أسواق مالية تتفهم هذه الصناعة. أيضا من المزايا زيادة فرص التخصص وهو ما يسمح بإعادة هيكلة الصناعة وظهور منتجات جديدة والتكامل مع الشركات الأخرى للحصول على مزايا الحجم والمقدرة على دخول أسواق جديدة. ومن المزايا لتلك التجمعات الصناعية إمكانية الحصول على الأسعار التفضيلية لشراء كميات كبيرة من المواد الخام، تسهيل الوصول إلى العمالة المدربة والموردين المتخصصين، كذلك تسهيل تبادل المعلومات واكتساب المعرفة، ومنها سرعة الاستجابة للتغيرات في الصناعة. ومن أبرز إيجابيات هذه التجمعات زيادة القدرة الابتكارية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية والتطوير المستمر.
#2#
وفي هذا السياق كشفت الدراسة الاقتصادية التي أعدها مركز المعلومات والدراسات في الغرفة التجارية الصناعية في المنطقة الشرقية بعنوان: "آفاق تطبيق التجمعات الصناعية وتأثيره في التوطين الصناعي في السعودية" أنه بنهاية عام 1433هـ بلغ نحو 5991 مصنعاً تتركز النسبة الأكبر منها (18 في المائة) في نشاط "منتجات المعادن اللافلزية"، بـ 1090 مصنعاً، وتأتي المصانع المتخصصة في نشاط "تشكيل المعادن" في المركز الثاني بنسبة 14 في المائة من إجمالي عدد المصانع، إذ بلغ عددها 818 مصنعاً، وفي المركز الثالث يأتي نشاط "منتجات المطاط واللدائن" بـ 737 مصنعاً وبنسبة بلغت 12 في المائة من إجمالي عدد المصانع، ويتضح أن هذه الأنشطة مجتمعةً تشكل نسبة 44 في المائة من إجمالي عدد المصانع في المملكة.
وعن حجم التمويل الذي حصل عليه القطاع الصناعي في المملكة جاء في الدراسة التي تهدف إلى استكشاف آفاق التجمعات الصناعية في المملكة ولا سيما في المنطقة الشرقية أنه بنهاية عام 1433هـ بلغ نحو 647.4 مليار ريال، وقد حصل نشاط "المواد والمنتجات الكيماوية" على النسبة الأكبر من هذا التمويل بنسبة بلغت 39 في المائة، يليه نشاط "منتجات المعادن اللافلزية" بنسبة 13 في المائة، ويأتي في المركز الثالث نشاط "فحم الكوك والمنتجات النفطية المكررة" بنسبة 12 في المائة، وتستحوذ هذه الأنشطة الثلاثة مجتمعةً على نسبة 64 في المائة من إجمالي التمويل، وبالاعتماد على نتائج التعداد الاقتصادي الشامل عام 2011 الذي أجرته مصلحة الإحصاءات العامة يوجد في المملكة 88.247 منشأة صناعية تقوم نسبة 96 في المائة منها بتشغيل ما يقل عن 19 عاملاً، وبالتالي يمكن اعتبارها منشآت صغيرة ومتوسطة، وبالنسبة إلى الميزان التجاري للقطاع الصناعي فقد حقق عجزاً عام 2011 بنحو 176 مليار ريال، نتيجة وجود عجز تجاري في معظم الأنشطة الصناعية وهو ما يدل على وجود فرص كبيرة أمام القطاع الصناعي السعودي للإحلال محل الكم الكبير من الواردات الصناعية والبالغ 425 مليار ريال عام 2011.
وأكدت الدراسة وجود اهتمام كبير للمملكة بتأسيس مدن وتجمعات صناعية جديدة، يصاحب هذا الاهتمام تقديم العديد من محفزات الاستثمار الصناعي التي تتضمن توافر التمويل والأراضي الصناعية وتقديم تسهيلات الإعفاء الجمركي وبرامج تشجيع الصناعة، إضافة إلى الامتيازات المقدمة من صندوق تنمية الموارد البشرية وغيرها من المحفزات، وخلصت إلى وجود آفاق لتأسيس 26 تجمعاً صناعياً في المملكة في خمس مناطق رئيسة "الشرقية، الرياض، القصيم، مكة المكرمة، المدينة المنورة"، وبالنسبة إلى المنطقة الشرقية وحدها فتوجد آفاق لتأسيس ثلاثة تجمعات صناعية رئيسة يتخصص الأول في الصناعات المرتبطة بتشكيل المعادن ويتخصص الثاني في تصنيع المنتجات الخشبية والأثاث، بينما يركز الثالث على الصناعات المساندة للشركات الاستراتيجية الكبرى في المملكة وفي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقدمت الدراسة بهذا الشأن نموذجاً تفصيلياً لهذا التجمع. كما قدمت الدراسة 12 توصية رئيسة للاستفادة من فرص تأسيس تجمعات صناعية جديدة في المملكة كان من أهمها تقديم برامج تحفيزية إضافية للمنشآت الصناعية التي يمكن أن تتمركز أنشطتها في هذه التجمعات، وضرورة قيام الشركات الاستراتيجية الكبرى والأجهزة الحكومية بمنح الأفضلية في مشترياتها للصناعات الوطنية، وإنشاء برنامج لدعم الموردين المحليين، وأهمية الربط بين منظومة التجمعات الصناعية ونظم التعليم والتدريب ومؤسسات البحث العلمي، إضافة إلى مجموعة توصيات مهمة شملتها الدراسة. وأظهرت الدراسة وجود تركز كبير في القطاع الصناعي في أنشطة تكرير النفط وصناعة البتروكيماويات، إذ تستحوذ على نسبة كبيرة من التمويل الصناعي والاستثمار الأجنبي والصادرات الصناعية، كما كشفت الدراسة أهمية المنطقة الشرقية صناعياً بالنظر إلى احتضانها 23 في المائة من مصانع المملكة، واستيعابها 25 في المائة من العاملين في القطاع الصناعي في المملكة.
أكدت الدراسة أهمية التجمعات الصناعية بالنسبة إلى كل من اقتصادات الدول وللمنشآت المقامة بداخلها ولدورها كذلك في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وما يؤكد ذلك أن هذه التجمعات كانت سبباً رئيساً في تنمية الصناعات التكنولوجية في وادي السيليكون في الولايات المتحدة، كما لعبت دوراً كبيراً في تربع إيطاليا على عرش صناعة ماكينات التغليف في العالم، وساعدت المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الهند على تحقيق معدلات نمو مرتفع. كما مكنت البرازيل من أن تكون ضمن أهم الدول المنتجة والمصدرة للمنتجات الجلدية، وقدمت النرويج تجربة عالمية رائدة في الصناعات المساندة لقطاع النفط والغاز من خلال تجمع "نود"، وأبرزت توافر الفرص الاستثمارية الواعدة في المملكة بشكل عام وفي المنطقة الشرقية بشكل خاص أمام الاستثمار الصناعي المحلي والأجنبي، الأمر الذي يتيح تعزيز الاستفادة من هذه الفرص في حال تأسيس تجمعات صناعية ترعى هذه الاستثمارات من خلال توفير المتطلبات اللازمة من بنية تحتية وموارد بشرية ورأسمال وتكنولوجيا وغيرها من المتطلبات.