اقتصاد العالم خرج من العناية المركزة لكنه لم يشفَ

اقتصاد العالم خرج من العناية
المركزة لكنه لم يشفَ
اقتصاد العالم خرج من العناية
المركزة لكنه لم يشفَ

في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي رسم أولي رين مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الاقتصادية والنقدية، صورة تفصيلية للمستقبل الاقتصادي لدول الاتحاد خلال عام 2014. بيد أن تفاصيل الصورة وواقعيتها المفرطة أفقدتها أي بريق لدى الرأي العام ورجال الأعمال الذين أرهقتهم سنوات الأزمة الاقتصادية. فالاقتصاد الأوروبي على حد وصف أولي راين، وتحديدا اقتصاد منطقة اليورو، وصل إلى «نقطة تحول»، فمنطقة اليورو تنمو بسرعة أقل مما كان متوقعا سابقا. والخطر الاقتصادي الذي يزعج السياسيين الأوروبيين، ألا وهو معدلات البطالة المرتفعة، ستظل على ارتفاعها خاصة في اليونان وإسبانيا، بل سترتفع في فرنسا. وستبلغ نحو 12.2 في المائة في عموم بلدان منطقة اليورو. أما معدل النمو فلن يتجاوز 1.1 في المائة العام المقبل، والأسوأ أن هذا المعدل أقل من المتوقع سابقا وهو 1.4 في المائة. أما معدلات التضخم فلن تكسر حاجز 1.5 في المائة عام 2014، لكنها ستتراجع العام التالي لتصل إلى 1.4 في المائة، لتكون بذلك أقل من السقف المحدد من قبل البنك المركزي الأوروبي وهو 2 في المائة.

#2#

لمعظم قادة أوروبا كانت الأرقام التي أعلنها الرجل الذي يعلم أكثر من غيره التفاصيل الحقيقية للأوضاع الاقتصادية والنقدية في القارة الأوروبية، مشجعة نسبيا، فسياسات الإصلاح الهيكلي التي تبنتها أوروبا منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية عام 2008، أوقفت التدهور، لكن القاطرة الاقتصادية لم تنطلق بعد. فالفجوة بين أرقام الاقتصاد الكلي –التي تبدو مقبولة نسبيا - والأوضاع المعيشية اليومية للشعوب الأوروبية حيث البطالة وتراجع معدلات الاستهلاك وارتفاع الضرائب والأسعار ملحوظة بشكل كبير، أوجد ذلك قلقا كبيرا من أن تستغل القوى المعادية للمهاجرين وذات التوجهات اليمينية المتطرفة تلك البيئة الاقتصادية المتوترة لتفجير الوضع السياسي والاقتصادي معه، خاصة في بلدان مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وحتى فرنسا وبريطانيا.
أيام معدودات بعد إعلان أولي رين حقيقة المشهد الاقتصاد الأوروبي، وكان رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو يصعد على مسرح الأحداث الاقتصادية ويعلن أن الاتحاد الأوروبي قرر استثمار نحو تريليون يورو خلال الفترة من 2014 إلى 2020 لرفع معدلات النمو وإيجاد فرص عمل. باروسو أكد أن مبلغ التريليون يورو سيكون كافيا للمساعدة على تعزيز واستدامة الانتعاش الاقتصادي الراهن في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، على حد وصفه، وأنه سيضمن لأوروبا بناء طريق للخروج من أزمتها الراهنة.
بين تصريحات أولي رين وإعلان خوسية باروسو وقفت أوروبا لتراقب بحذر وقلق الأفق الاقتصادي للمستقبل وتحديدا خلال العام المقبل. ويعلق لـ «الاقتصادية» الدكتور ليونيث جونسون الأكاديمي السابق في «لندن أسكول أف أوكينمويكس» والخبير في البنك الدولي على وضع الاقتصاد الأوروبي خلال العام المقبل بالقول «هناك إقرار رسمي ببطء عام في التحسن الاقتصادي، وهذا سيدفع البعض إلى التساؤل عن جدوى سياسات التقشف المتبعة في العديد من البلدان الأوروبية، لكن لا يوجد بديل غير مواصلة هذه السياسة العام المقبل، فمن الخطر تغييرها حاليا بعد أن قطعنا هذا الشوط، نعم الاقتصادات الأوروبية في مجملها خرجت من غرفة العناية المركزية، لكنها لم تشف تماما بعد، وأعتقد أنه من المبكر رفع رايات النصر على الأزمة الاقتصادية»، ويضيف: «عند التعامل مع الاقتصاد الأوروبي علينا أن ندرك أن الأوضاع الاقتصادية بين بلدانه متفاوتة للغاية، والقول إن الأزمة الاقتصادية ستتواصل خلال عام 2014 لا يعني أن الوضع الاقتصادي في إسبانيا يعاني الأزمة نفسها التي تعانيها اليونان، ويجب ألا يبعدنا هذا عن تذكر أن هناك أيضا جهودا جديرة بالإشادة، من بينها المملكة المتحدة التي تشهد تحسنا اقتصاديا».
وجهة نظر مات يشوب دكتور الاقتصاد الكلي الخبير الاستشاري في الاتحاد الأوروبي وأحد المستشارين الاقتصاديين للحكومة اليونانية لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الدكتور ليونيث، لكنه يقدم لـ «الاقتصادية» مزيدا من التفاصيل بالقول: «عبء الدين في منطقة اليورو ضخم للغاية، ويزداد ثقله الاقتصادي نتيجة فتور معدلات النمو والعجز في الميزانية، وأوروبا في حاجة إلى تحقيق معدلات نمو تفوق 2.5 في المائة سنويا للخروج من هذا المأزق، وهذا مستبعد حاليا، كما أن انخفاض معدلات التضخم لم يفلح في إخراج المجتمعات الأوروبية من أزمتها، والاختلال لا يزال قائما، فمعدلات الفائدة وقيمة اليورو مرتفعان في البلدان المأزومة في الاتحاد مثل اليونان وإسبانيا حتى إيطاليا، وقطاعاتها المصرفية ضعيفة وغير قادرة على جذبها بعيدا عن الوضع الراهن»، ويضيف: «أتوقع أن تكون أفضل الاقتصادات الأوروبية أداء خلال العام المقبل ألمانيا والمملكة المتحدة وإيرلندا, ويتوقع أن تكون معدلات النمو لديها 1.8 في المائة و1.7 في المائة بالنسبة لألمانيا وبريطانيا على التوالي، أما إيرلندا لأن اقتصادها أصغر حجما فسيحقق معدلات نمو أكثر ارتفاعا ربما تصل إلى 2.2 في المائة، حتى البلدان التي ضغطت عليها الأزمة الاقتصادية بشكل أكثر حدة مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال فستحقق نتائج أفضل العام المقبل، لكن لن تكون مثالية».
على الرغم من إقرار كبار المسؤولين الاقتصاديين في بلدان الاتحاد الأوروبي بأن الصورة العامة للاقتصاد الكلي في بلدانهم ستظل «مهزوزة» خلال العام المقبل، إلا أن هناك مجموعة من المؤشرات ينظر إليها بإيجابية، وسط آمال بأن تعزز خلال العام المقبل. فمعدلات زيادة الضرائب والاستقطاعات الحكومية من الإنفاق العام ستتواصل، لكن بمعدلات أقل من السنوات السابقة، كما ازدادت معدلات الثقة لدى المستهلك بسبب عدم وقوع هزات اقتصادية ضخمة خلال العامين الماضيين، ورصد تحسن في أداء الشركات، خاصة المتوسطة والصغيرة التي يبلغ عددها في بلدان الاتحاد نحو 20 مليون شركة. وواصلت المصارف المركزية سياساتها للتحفيز الاقتصادي بخفض معدلات الفائدة، الذي وصل في بريطانيا مثلا إلى 0.5 في المائة، وهو المعدل الأدنى في تاريخ بنك إنجلترا منذ أكثر من ثلاثة قرون، وأسهمت هذه السياسة في توفير فرص أفضل للائتمان المالي في ظل المعارضة البينة من قبل المصارف التجارية على إقراض العملاء خشية عدم قدرتهم على السداد مستقبلا.
ويعلق لـ «الاقتصادية» بول أدمز رئيس فرع الإقراض في بنك لويدز قائلا: «من المهم الإشارة إلى أن المصارف وشركات التأمين الأوروبية بصفة عامة ضعيفة وغير قادرة على توفير الائتمان المالي الحيوي للأسر والشركات، وإن كانت هذه المشكلة أقل حدة في بريطانيا، والحل المفترض خلال العام المقبل هو مراجعة جودة الأصول عن طريق البنك المركزي الأوروبي، وإذا تحق ذلك فإن المصارف ستكون أقل نفورا من المخاطرة والتردد في الإقراض»، ويضيف: «على سبيل المثال الخطة الأوروبية للتصدي لمشكلات المصارف العملاقة التي قد يؤدي انهيارها إلى كارثة اقتصادية، ترمي إلى الحد من تأثير ذلك في دافعي الضرائب، فعندما تصدعت المصارف الأوروبية من جراء انفجار الأزمة الاقتصادية عام 2008 فإن الذي تحمل عبء إنقاذها هم دافعو الضرائب، الآن أوروبا تسعى إلى عدم تكرر تلك المأساة، وأن يتحمل العبء مستقبلا خزانة الدولة التي تعاني مصارفها تعثرا، وتقدر القيمة المالية للتعثرات البنكية ماليا في أوروبا حاليا بما يراوح بين 1.5وتريليوني يورو وفقا لتقديرات مصرف دوتشيه الألماني، ولهذا نشهد غيابا لتقاسم واضح للتكاليف والمخاطر داخل دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو تحديدا لتكلفة إنقاذ المصارف المتعثرة، وهذا يعني أن الاقتصاديات الأضعف مثل إيطاليا وإسبانيا وبالطبع اليونان ستواصل خلال العام المقبل حالة الضعف التي تعانيها حاليا».
ويعتقد البعض أن جدول أعمال برنامج الإصلاح الاقتصادي الأوروبي سيجعل من عملية إصلاح النظام المصرفي أحد أبرز أولوياته خلال عام 2014. فاعتماد المصارف الضعيفة على حكومات بلدانها لمساعدتها على الخروج من تعثرها المالي يضع ضغوطا مالية ضخمة على تلك الحكومات التي تعاني ميزانيتها تفاقم العجز المالي، كما أن تلك المصارف يصعب عليها الاقتراض من الآخرين بسبب وضعها المتعثر، وهو ما يعني أن النظام المصرفي في الاقتصادات الأوروبية الضعيفة يعاني الدوران في «دائرة مفرغة»، وهو ما يدفع بعض المعنيين بالشأن الاقتصادي إلى الدعوة لكسر تلك الحلقة عبر دعم البنك المركزي الأوروبي للمصارف المحلية المتعثرة، مطالبين بإعادة النظر في الاتفاق الأوروبي على قواعد عمل لمساعدة المصارف المتعثرة، التي يفترض أن يشرع في تنفيذها عام 2015.
إلا أن البروفيسور ثورثتين بيك أستاذة مادة المصارف والمالية في جامعة لندن وفي مقال شهير لها بعنوان «كيف يمكن لأوروبا معالجة مشكلة المصارف الفاشلة؟» يكشف بوضوح أن هناك صراعا بين بلدان الشمال والجنوب في أوروبا حول كيفية التصدي لموضوع المصارف المتعثرة، الذي يعوق بلدان الاتحاد عن تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ويقول «لسنوات عجزت أوروبا عن حل مشكلة المصارف المتعثرة بسبب الخلاف السياسي بين صناع القرار السياسي، فبلدان الجنوب الأوروبي – وهي الأقل نموا – مثل إسبانيا واليونان تطالب بأن يتم حل تلك المشكلة بطريقة مركزية، وأن تسهم أوروبا في مجملها في النهوض بالمصارف المتعثرة، بينما ترفض بلدان الشمال الأوروبي وأبرزها بريطانيا وألمانيا هذا، فهي من سيتحمل العبء الأكبر لتمويل هذه المصارف». ولهذا يتوقع أن يشهد عام 2014 تواصل الجدل الأوروبي حول المصارف المتعثرة ومعارضة البلدان الأوروبية الأكثر ثراء مساندة البلدان الأفقر لإخراج مصارفها المحلية من أزمتها المالية.
تعول أوروبا على أن يشهد عام 2014 تدفقات رأسمالية خارجية في شكل استثمارات مباشرة أو غير مباشرة في عديد من قطاعاتها الاقتصادية. فعلى الرغم من القلق الذي انتاب البورصات الأوروبية خلال عام 2013 فإن الأداء العام لبورصات أوروبا فاق التوقعات. فمؤشر داو جونز يورو ستوكس 50 ارتفع بنسبة 12 في المائة ومؤشر دي إيه إكس في ألمانيا حقق زيادة تقدر بنحو 20 في المائة، وبصفة عامة فإن مؤشرات بورصات منطقة اليورو حققت أرباحا راوحت بين 10 و11 في المائة. تدفع تلك النتائج إلى توقع أن يعود المستثمرون مرة أخرى إلى القارة الأوروبية خلال عام 2014 ولربما بمعدلات تفوق الاستثمار فيما يعرف بالاقتصادات الناشئة. ويصرح لـ «الاقتصادية» ويبر سايمون الخبير في مجال الاستشارات الاستثمارية قائلا: «ربما نلاحظ إقبالا أكبر للاستثمارات الأجنبية في مجال الشركات الموجهة للتصدير، والسبب في ذلك انخفاض معدل الفائدة في أوروبا، فهذا يعني أن ارتفاع سعر الدولار في مواجهة اليورو سيجعل السلع الأوروبية أرخص في الأسواق العالمية، لكن المؤكد أن مجال الاستثمار الأكبر بالنسبة للمستثمرين الأجانب خلال عام 2014 سيكون المجموعات المالية التي ستشهد تحقيق معدلات ربحية مرتفعة، تليها شركات تكنولوجيا المعلومات»، ويضيف: «أما بخصوص البلدان التي يتوقع أن يحقق المستثمرون الأجانب فيها معدلات ربحية مرتفعة فستكون اليونان، جراء الحاجة الماسة إلى عملات أجنبية، والدول الإسكندنافية وإيطاليا».

الأكثر قراءة